هؤلاء هم الملائكة الذين خلقهم الله لتسبيحه سبحانه، فلا عملَ لهم غير تسبيح الله وهم حملة العرش ومَنْ حوله. والتسبيح كما قلنا من المقاليد، ومعنى { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.. } [غافر: 7] أي: يُنزهونه سبحانه عن مشابهة خَلْقه في الأسماء والأفعال والصفات.
لذلك قلنا: إذا اشترك الحق سبحانه مع خَلْقه في شيء فلا بدَّ أنْ نأخذه في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.. } [الشورى: 11].
فلله فعل ولك فعل، لكن لا تَقِسْ فعلم بفعل ربك سبحانه، وهذه المسألة أوضحناها في شرح أول سورة الإسراء، فلما كان الحدث مُستغرباً بدأ الله تعالى السورة بالتسبيح { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ.. } [الإسراء: 1] قالها بداية حتى لا نقيس فعل الله على فعل البشر ولا قدرة الله بقدرة البشر، فلله تعالى فعل ولك فعل، لكن فعل الله ليس كفعلك، فإياك أنْ تقول المسافة والزمن.
سبحان الله
وكلمة (سبحان الله) تعني تنزيه الله تعالى عن كل ما يشبه البشر، لذلك قالوا: كلُّ ما يخطر ببالك فالله خلاف ذلك، وهذا التنزيه ليس طارئاً بوجود مَنْ ينزه الله إنما هو أزليّ قبل أنْ يخلق الله مَنْ ينزهه، فهو سبحانه مُنزَّه في ذاته قبل أنْ يوجد مَنْ ينزهه.
لذلك لما وُجدَتْ السماء والأرض قال: { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ.. } [الحديد: 1] أي: سبَّحوا الله ساعة خُلِقوا فقالوا: سبحان الله الخالق العظيم، ولا يزالون يُسبِّحون، كما قال: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ.. } [الجمعة: 1] فالتسبيح موصول دائم، فإذا كان الكون كله سبَّح لله ولا يزال يُسبِّح، والكون مخلوق لك أيها الإنسان فأنت أَوْلَى بالتسبيح منه، لذلك قال: { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى: 1].
وتسبيح الله تنزيه له سبحانه في أفعاله وفي صفاته، فحين تتأمل مثلاً مسألة الخلق تجد خَلْق الإنسان من طين، فهل يمكنك أنْ تأخذ قطعة من الطين فتُسويها على هيئة إنسان ثم تنفخ فيها أنت الروح؟ هذه العملية لا يقدر عليها إلا الخالق سبحانه.
لذلك سيدنا عيسى عليه السلام لما أراد الله أنْ يجعل له آية ومعجزة في مسألة الخَلْق قال: { أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ.. } [آل عمران: 49] فقال في نفخ الروح { بِإِذْنِ ٱللَّهِ.. } [آل عمران: 49] لأنه بذاته لا يستطيع هذه العملية، إنما كوني أُصوِّر تمثالاً على هيئة إنسان أو طائر فهذه مسالة سهلة.
إذن: كان عليك أيها الإنسان الذي كرَّمه الله، كان عليك أن تسبح، لأن الكون والجماد الذي خلقه الله لك سبَّح وما يزال.
اظهار أخبار متعلقة
الإعجاز العددي
وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ.. } [غافر: 7] هم الملائكة حملة العرش. إذن: العرش محمول، وهؤلاء الملائكة حتى عددهم فيه إعجاز، فالحق سبحانه أخبر أنهم ثمانية { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة: 17].
فلماذا لم يجعلهم أربعة فيكون كما تعوّدنا في أيّ بناء له أربعة أركان، ولماذا لم يكونوا خمسة مثلاً. إذن: لابدَّ أن في هذا العدد بالذات حكمة وإعجازاً.
وهذا الإعجاز العددي واضح أيضاً في قوله تعالى: { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [المدثر: 30] فلماذا تسعة عشر بالذات؟ لماذا لم يجعلهم عشرين مثلاً، هذا دليل على أن وراء هذا العدد حكمة، وقد أخبر الله تعالى أن هذا العدد فتنة { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } [المدثر: 31].
والإيمان يقتضي التصديق بما أخبر به الحق سبحانه وألاَّ تناقش مثل هذه المسائل، المهم قال أو لم يَقُل: حدث الشيء أو لم يحدث، لذلك سيدنا أبو بكر لما أخبروه أن صاحبك يدَّعي أنه رسول، ماذا قال؟ قال: ألا وقد قالها؟ قالوا: نعم، قال: فقد صدق ولم يبحث في المسألة، كذلك نحن في كل أمر يقف فيه العقل، ما دام قد جاءنا فيه خبرٌ من عند الله فعلينا أنْ نقبله ونؤمن به { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [النساء: 87].
وكَوْن عقلك يستوعب هذا الخبر أو لا يستوعبه فهذا موضوع آخر، لأن هناك فرقاً بين الوجود وكيفية الوجود، فقد يوجد الشيء لكنك لا تعرف كيف وُجِد.
إحياء الموتى
تأمل في قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين قال: { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.. } [البقرة: 260].
تجد السطحيين في الفهم عن الله يتهمون القرآن في هذه المسألة بالتعارض، كيف؟ يقولون: معنى (بلى) يعني آمنت والإيمان يقتضي اطمئنان القلب إلى العقيدة، فلماذا يقول بعدها: { وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.. } [البقرة: 260]؟
ونقول له: أنت معذور، لأنك لم تفهم معنى السؤال، ولو فهمتَ معناه ما اتهمتَ القرآن، هل قال إبراهيم لربه: أتحيي الموتى أم قال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي.. } [البقرة: 260] فهو إذن لم يسأل عن إمكانية الفعل ولم يشُكّ في قدرة الله، ولكنه يسأل عن الكيفية { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ.. } [البقرة: 260] إذن: فإحياء الموتى أمر سابق يسأل إبراهيم عن كيفيته، فلو قلت لك: كيف بنيتَ هذا البيت؟ فهذا يعني أن البيت قائم بالفعل.
إذن: فقوله (بَلَى) يعني: آمنت يا رب أنك تحيي الموتى، وطلب الاطمئنان بعد ذلك للكيفية والسؤال عن الكيفية أمر ضروري في مسألة الخَلْق وكيفية الإيجاد لأنها عملية لا تتأتى كلاماً، لأن فِعْل الله تعالى ليس علاجاً كفعل البشر.
فلو قلت لك: كيف بنيت هذا البيت؟ تقول: حفرتُ الأساس وأحضرتُ الحديد والأسمنت وفعلتُ كذا وكذا، فلان صمم، وفلان نفّذ، وفلان بنى، وفلان (غفق).. إلخ فأعطيك كيفية الفعل بحيث تستطيع تطبيقها إنْ أردت ولا تجد فيها اختلافاً، لكن إنْ أردنا أنْ نُبين كيفية الإحياء، فكيف نبنيها؟
إنها مسألة لا تتأتى بالكلام، ولا بدّ من إجراء العملية بالفعل، وتأمل أن الله تعالى أراد أن يُجريها إبراهيم بنفسه، وألاَّ تجرى له إنما يمارسها بنفسه.وفَرْقٌ بين أنْ تُعدَّى قدرتك لغيرك فتنفعل له، وأنْ تُعدَّى قدرتك لغيرك فتجعله يفعل بنفسه، فمثلاً قد تعجز عن حمل شيء فأحمله عنك وهذا أمر طبيعي، لكن العظمة في أن أجعلك تقدر أنت بنفسك عن حمله.
وهذا ما فعله الحق سبحانه مع نبيه إبراهيم عليه السلام: { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ ٱلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ.. } [البقرة: 260] أي: ضُمهن إليك واعرف أوصافهن { ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا.. } [البقرة: 260] يعني: اذبحهن وفرِّقْ أجزاءهن على الجبال { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً } [البقرة: 260].
إذن: هو الذي يذبح، وهو الذي يُقطِّع الأجزاء، وهو الذي يُفرِّقها، وهو الذي ينادي عليها بنفسه فتتجمع بقدرة الله ويأتينَ سَعْياً كما كُنَّ من قبل، فإذا كنت أقدرت ما لا يقدر على القدرة ألا أقدر أنا عليها؟
والعرش هو سمة استتباب الملْك والسيطرة على الحكم والاستيلاء عليه، وليس من الضروري أنْ يقعد على العرش بالفعل، لذلك لما تكلم الهدهد عن ملكة سبأ قال: { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [النمل: 23] لأن الملك لا يقعد على العرش إلا عندما تستقر له الأمور، وتدين له البلاد، فإنْ كانت هناك منطقة معترضة أو مشاغبة للملك تفرغ لها حتى تدين له، وعندها يستقر له الملْك.
إذن: فاستواؤه سبحانه على العرش جاء بعد أن انتهى من الخَلْق وتَمَّ له كل شيء من أمور الملك والسيطرة الكاملة.
فقوله سبحانه: { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ.. } [غافر: 7] هم الملائكة الثمانية حملة العرش. { وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ.. } [غافر: 7] وهؤلاء نوع آخر من الملائكة، وهم الكروبيون الذين لا عملَ لهم إلا تسبيح الله، وليس في بالهم هذا الكون كله، ولا يدرون عنه شيئاً، فقط { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.. } [غافر: 7].
لكن هؤلاء الكروبيين الذين يحيطون بالعرش الذين يحيطون بالعرش ويُسبِّحون الله ولا عملَ لهم غير ذلك، هل يروْنَ الله سبحانه وهو على العرش؟ قال علماؤنا رحمهم الله: أنهم رغم منزلتهم هذه إلا أنهم لا يروْنَ الله تعالى، وأظهر هذه الأقوال قول الفخر الرازي رحمه الله، فلما تكلم في هذه الآية { ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.. } [غافر: 7] استأنس برأي صاحب الكشاف الذي سبقه وقال: إن معنى { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.. } [غافر: 7] أنهم لا يرونه سبحانه لأن المشهديات ليس فيها إيمان، الإيمان للغيبيات، فلو أنهم شهدوا الله وهو على العرش ما قال في حقهم { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.. } [غافر: 7] ثم قال الفخر الرازي: ولو لم يكُنْ للإمام صاحب الكشاف إلا هذه لكفتْهُ طيلة حياته، هذا مع ما بين الإمامين من خلاف في الرأي.
إذن: لا نفهم من مكانة هؤلاء الملائكة وقربهم من ذي الجلال سبحانه أنهم يروْنَه، لا بل هو سبحانه بالنسبة لهم غيب لا يرونه، يؤكد هذا قوله سبحانه { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ.. } [غافر: 7] فأنت الآن في هذا المجلس لا تقول مثلاً: آمنتُ بأن الشيخ الشعراوي جالس وحوله مُحبِّوه ويتكلم في كذا وكذا، لأن ما نحن فيه الآن مشهد لا دخْلَ للإيمان فيه، الإيمان لا يكون إلا بأمر غيبي وهذه ميزة الإيمان، لذلك كثيراً ما يتكر قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ.. } [البقرة: 3].
وسبق أنْ ضربنا مثلاً قلنا: هَبْ أنني أخاف من اللصوص فأخذت مالي الذي أخاف عليه وذهبتُ إلى مكان بعيد في الحديقة مثلاً ووضعت المال وفوقه حجر ثقيل، ولما احتجتُ لهذا المال ناديتُ العامل: يا فلان ارفع هذا الحجر، فقال: لا أستطيع وحدي فهو ثقيل، فقلت له: تدري ماذا تحت هذا الحجر؟ تحته المال الذي سأعطيك منه راتبك، عندها يتقدم إلى الحجر ويرفعه، إذن: المهم ليس إطاعة الأمر الذي عُلِم منفعته، إنما إطاعة الأمر وهو غيب عنك.
ومعنى { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ.. } [غافر: 7] أي: تسبيحاً مقروناً بالحمد، لأن التسبيح ثناءٌ على الله، أما الحمد فشكرٌ لله على نعمه التي سبقتْ، ومن أجلِّ النعم أنه سبحانه لا يشبهه شيء ولو وجد له شبيه لحدثَ تعارض في الكون: { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ.. } [المؤمنون: 91] فهو وحده المعبود، وهو وحده المستحق للحمد.
دعاء الملائكة للمؤمنين
ثم بعد ذلك { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ.. } [غافر: 7] أي: أن هؤلاء الملائكة من ضمن مهمتهم أنهم يستغفرون للمؤمنين، كما حكى عنهم القرآن يقولون: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ } [غافر: 7].
هذا من دعاء الملائكة للذين آمنوا، والدعاء عادة بـ (ربنا) محذوف الياء التي للنداء فلم يقُلْ: يا ربنا لأن النداء بالياء يدل على بُعْد المنادَى، أما الأبعد فيُنادى بأيا، والقريب يُنادى بالهمزة مثل: أمحمد.
أما الحق سبحانه وتعالى فهو من القرب بحيث لا نستخدم في ندائه أيَّ حرف من حروف النداء، لأنه أقربُ لعبده من حبل الوريد، لذلك نناديه سبحانه مباشرة (ربنا)، ولك أنْ تستقرئ القرآن كله فلن تجد في ندائه سبحانه حرفاً من أحرف النداء.
حتى الكفار لما نادوا الحق سبحانه قالوا: { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ.. } [الأنفال: 32] ومعلوم أن الميم في آخر لفظ الجلالة هنا عِوَضٌ عن ياء النداء، فلم يقولوا: يا الله إنما قالوا: اللهم.