إن التاريخ خير شاهد ودليل على ما يدور من أحداث وأننا ينبغي الاحتكام إليه في كثير من الأمور حتى لا تتكر الأخطاء..
من جانبه، يبين د. عبد الحليم عويس أستاذ لتاريخ والحضارة الإسلامية كان كل شيء في الشرق الإسلامي يمهد السبيل للغزاة، فقد كان العالم الإسلامي أشبه بإقاطعات (أتابكيات) يتوزعها أمراء متنابذون متحاربون، ولم يكن ليخفى هذا الأمر على أوربا الصليبية فاستغلته لصالحها أفضل استغلال وتقدمت جيوشها إلى الشام، وربما وجدت من بعض هؤلاء الأمراء الخونة كثيراً من العون، فالفاطميون يرسلون السفارة بالتأييد للصليبيين وهم يحاصرون أنطاكية، وأمير شيزر يرسل إليهم وهم بالمعركة يطلب الموادعة على أن يشاطرهم بعض ما يملك، ويرسل إليهم الهدايا العظيمة من أموال المسلمين، والسلوك نفسه يسلكه أمير طرابلس الشام .. وهكذا.
ويضيف في بحث له عن صلاح الدين الأيوبي أنه نتيجة لهذا سقطت أنطاكية (491هـ) وداهموا بيت المقدس سنة (492هـ)، حيث قتلوا من أهلها عشرات الألوف في الأقصى والصخرة ... ووقع أمراء الشام الأقزام الخونة تحت رحمة "جود فردادي بويون" وإخوانه الصليبيين الذين لا يرحمون، ونجحت الحملة الصليبية الأولى وتكونت إمبراطورية لاتينية نصرانية في فلسطين والشام، وخيم اليأس على المشرق الإسلامي كله.
ويستطرد: وفي ظل هذا المناخ فشلت كل محاولات المقاومة التي اعتمدت على الفردية أو على التوحيد الجزئي عن طريق اتباع أسلوب قيام بعض الأحلاف الصغيرة لمواجهة الخطر الصليبي الكبير وهو أسلوب لجأ إليه بعض الأمراء المسلمين في ساعات العسرة، واشتهرت به الإمارات الارتقية كما حدث سنة (503هـ) حيث تم تشكيل حلف إسلامي بقيادة (مودود بن التونتكين) حاكم الموصل السلجوقي الذي حل محل "جاولي" بناءً على أمر من محمد بن ملكشاه سلطان السلاجقة، وقد ضم هذا الحلف الأمير ايلغازي الذي تقدم على رأس قواته الضخمة من التركمان، وسكمان القطبي أمير أرمينية، وعدداً كبيراً من المتطوعين، واتفقت آراؤهم على بدء عملياتهم بمهاجمة الرها والاستيلاء عليها فاتجهوا إليها ونزلوا عليها في شوال 503هـ - 1109م، وشددوا عليها الحصار، ولما عرف المسلمون قرب الصليبيين منهم، قرروا فتح الطريق أمامهم ليتمكنوا من لقائهم في السهول الممتدة شرقي الفرات، فغادروا الرها في أواخر ذي الحجة سنة (502هـ) وعسكروا في أرض حران، خدعاً للصليبيين؛ وكانت حران آنذاك تابعة لايلغازي. وإذ أدرك الصليبيون الهدف من هذه الحركة، ووردتهم أخبار تشير إلى تحرك رضوان لمهاجمة المواقع التابعة لإنطاكية، وتحرك المصريون لمهاجمة فلسطين أيقنوا عدم جدوى مهاجمة المسلمين، وقرروا الانسحاب من الجهات الواقعة شرقي الفرات وإخلاءها من المسيحيين (الأرمن واليعاقبة) إلى الجهات الغربية التابعة للصليبيين، وتقوية الإمكانيات الدفاعية للرها، ولكن ما أن بدأ الصليبيون بالانسحاب واتمام نقل المسيحيين المدنيين حتى نهض المسلمون في أثرهم، وأدركتهم طلائع القوات الإسلامية فغنموا سوادهم واثقالهم وقتلوا وأغرقوا وأسروا عدداً كبيراً منهم، ومن ثم اتجهت القوات الإسلامية ثانية لحصار الرها.
ويوضح: "عويس" أنه في مطلع عام (597هـ - 1113م) تحرك مودود بن التونتكين على رأس تحالف إسلامي آخر، بناء على استنجاد طغتكين أمير دمشق الذي تعرضت إمارته لهجمات شديدة من قبل صليبي بيت المقدس، ولذا كانت فلسطين هدف الجهاد هذه المرة وقد اشترك في هذا الحلف أمير سنجار وطغتكين، أما ايلغازى فقد أناب عنه ابنه إياز.
وفي الثالث عشر من المحرم كان اللقاء عند طبرية وانتهى بهزيمة الصليبيين بعد قتال شديد أعقبته سلسلة من الانتصارات ضدهم، أسفرت عن مقتل ما يقرب من ألف ومائتين وخمسين منهم.
لكن هذه الأحلاف الجزئية لم تؤد الأغراض المرجوة وبقيت سيطرة الصليبيين قوية على الشام في ظل إماراتهم الكبرى القوية التي تقف أوربا كلها وراءها.