يواصل المؤرخ الكبير الدكتور عبدالحليم عويس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بيان ملابسات فتح مصر ودور البطل الفاتح عمرو بن العاص.
يبين د . عبد الحليم عويس أن عمرو بن العاص كان يعلم أن الدولة الرومانية البيزنطية قد سولت لها نفسها أن تفرض على المصريين عقيدة يرفضونها، تقول: إن للمسيح ـ عليه السلام ـ طبيعيتين: إحداهما بشرية ، والأخرى إلهية ، بينما رأت كنيسة الإسكندرية المصرية أن للمسيح طبيعة واحدة.
ويضيف أن الخلاف الديني قد اتخذ في مصر شكلاً قومياَ ، فلم يقبل مسيحيو مصر ما تريد القسطنطينية أن تفرضه عليهم ، وأطلقوا على أنفسهم اسم "الأرثوذكسيين" أي أتباع الديانة الصحيحة ، أما أتباع الكنيسة البيزنطية فقد عُرفوا باسم أتباع الملكانيين نسبة إلى الملك أو الإمبراطور .
ويستطرد: ومنذ ذلك العهد تُعرف الكنيسة المسيحية في مصر باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، وتـُعرف أحياناً بالكنيسة اليعقوبية ، نسبة إلى يعقوب البرادعي (Jacob Baradeus) أسقف مدينة الرها "المونوفيزيتي" في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي.
ومما يدل على أن المسألة الدينية في مصر تطورت إلى مسألة قومية ـ أو امتزجت بها ـ ما يذكره "ساويرس" عن رهبان أحد الأديرة بأنهم لم يحيدوا عن المذهب الأرثوذكسي ، ولم يقبلوا المذهب الخلقدوني؛ لأنهم مصريون ، وقد ظن المصريون ـ خطأ ـ أن خروج الفرس من مصر (616 ـ 629م) على يد "هِرَقـْل" سيكون فاتحة خير ، وأن الإمبراطور الجديد الذي عرف ضعف البلاد نتيجة التمزق الديني قد يعود بالمسيحية إلى شيء من التسامح ، ولكن سرعان ما خاب ظنهم ؛ فإن هرقل بعد أن أنقذ الدولة من الفرس رأى أن ينقذها من الخلاف الديني عن طريق فرض مذهب الإمبراطورية مع شيء من التوفيق لم تقبله الكنيسة المصرية.
ويلفت "عويس" إلى أن هرقل شعر بأن الأنظار ترنو إليه من أرجاء العالم المسيحي لينقذ الكنيسة مما ألمَّ بها من انقسام وتطاحن ، ففكر في توحيد المذاهب المسيحية وصوغها مذهباً واحداً ، وقد تحدث في هذا الأمر إلى أساقفة الشام وبيزنطة ممن يمثلون شتى المذاهب المسيحية فوافقوه على فكرته كل الموافقة ، وسرعان ما أمر الأسقف "سرجيوس القسطنطيني" بأن يضع صورة للتوفيق بين المذهب الملكاني والمذهب اليعقوبي ، فقام هذا الأسقف بتنفيذ إرادة الإمبراطور ، ووضع صورة للتوفيق أقرها هرقل ، وكانت تقضي بأن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كُنه طبيعة السيد المسيح وعما إذا كانت له طبيعة واحدة أو طبيعيتان ، ولكن عليهم أن يشهدوا بأن له إرادة واحدة أو قضاءً واحداً .
ويذكر قد قدّر الإمبراطور هرقل أن القول بهذا المذهب الجديد سيرضي المصريين الأقباط ؛ لأنه يرادف القول بالطبيعة الواحدة ، ولا يُسخط أصحاب القول بالطبيعيتين ؛ لأنهم يقولون إن الطبيعيتين عند السيد المسيح تتفقان مع المشيئة الإلهية ، لكن تقدير هرقل باء بالفشل ، بل إن الأمور ازدادت سوءاً ؛ لأن فرض العقائد بالأمر السياسي أو العسكري لا يزيد الأمور إلا اشتعالاً وتعقيداً ، كما أن هرقل وقع في خطأ آخر عندما أسند الرئاسة الدينية والسياسية في مصر لشخص واحد هو "قيرس" الذي يعرف عند مؤرخي العرب باسم "المقوقس" فكأنه يعطيه تفويضاً بفرض مذهب الإمبراطورية الديني بالقوة القاهرة ؛ جامعاً في يديه بين سيف التكفير وسيف القوة. والحق أن قيرس "المقوقس" أصبح بهذه الصلاحيات المطلقة المُغْرية بالظلم شخصاً نحْساً أنكد النقيبة ؛ فقد أخفق في سعيه لتوحيد المذهبين الملكاني واليعقوبي في مصر ، ثم عسف في الحكم حتى صار اسمه مفزعاً للقبط كريهاً عندهم مدة عشر سنين ، أمعن فيها ما استطاع في اضطهاد مذهبهم حتى استحال بعد ذلك أن يبقى في القبط ولاء للروم .
ويضيف: لقد قاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد من جراء اضطهاد "قيرس" ، الذي فاق كل اضطهاد ، حتى تحول الكثير ممن لم يستطيعوا الهرب إلى المذهب الجديد ومنهم بعض الأساقفة ، وقد صمد كثيرون ضده ومن بينهم الأب "مينا" أخو البطرك "بنيامين" على الرغم من التعذيب والاضطهاد الذي ناله من جراء ذلك ؛ ومن ذلك نرى أن سيف (قيرس) قطع آخر ما كان يربط المصريين بالدولة البيزنطية من أسباب الولاء .
بن العاص.