جعل الله الصبر مراتب كثيرة، شرف بها عباده بعد أن ابتلاهم وامتحن ما في قلوبهم، فمن أنواع الصبر هي الصبر على المرض والصبر على الفقر والصبر على الطاعة والصبر على أذى الناس وهي أعلى مراتب الصبر، التي وصف الله بها نبيه محمدا صلى الله عليه سولم، فقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120].
فهذا رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم يصبر في مكَّة على عداوة المُشْركين، وفي المدينة على كيْد المنافقين واليهود، ويرفُض الاسْتِدراجَ والاستعجالَ، ويضبط سير أصحابِه الكِرام بضوابط الشرع، فيضحُّون بالوقْت والمال والأهْل والأنفُس، حتَّى يتكوَّن جيلٌ ربَّاني يتولَّى بنفسِه هدْمَ الأصنام التي كان يعبُدها، مردِّدًا مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قولَ الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81].
فقد قعد المشركون بالأذى للنبي صلى الله عليه وسلم، وشنوا عليه حرباً مفتوحة على جبهات متعددة لمواجهة الإسلام، وإيذاء الصحابة ، كما مدت قريش يد الإيذاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمرت في حملات التشويه والتلبيس والتشويش على النبي وعلى الإسلام وعلى الداخلين فيه.
وضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في تحمل الاضطهاد والإيذاء المعنوي والبدني، في سبيل توصيل رسالة ربه إلى الناس، وتحمل النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من البلاء والعناء، منذ أول يوم صدع فيه بالدعوة، ولقي صلى الله عليه وسلم من سفهاء قريش أذى كثيراً، فكان إذا مر على مجالسهم بمكة استهزؤوا به، وسخروا منه، يقول سفهاؤهم: هذا ابن أبي كبشة يكلم من السماء، وكان أحدهم يمر على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول له ساخراً: أما كلمت اليوم من السماء؟!.
ولم يتوقف الأذى للنبي على مجرد السخرية والاستهزاء والإيذاء النفسي، بل تعداه إلى الإيذاء البدني، ووصل الأمر إلى أن يبصق عدو الله أمية بن خلف في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صبر على ما أصابه، إشفاقاً على قومه أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم الماضية من العذاب، وقد صدق فيه قول ربه عنه: وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين.
وكان أبو لهب عم النبي في مقدمة الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقف موقف العداء من ابن أخيه منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا.
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما، وقد بلغ من أمر أبي لهب أنه كان يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذبه، بل كان يضربه بالحجر حتى تدمى عقباه.
وكانت امرأة أبي لهب أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تضع الشوك في طريقه، والقذر على بابه، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حرباً شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فيها الله تعالى: "تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد"، فلما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبوبكر الصديق وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت: مذمماً عصينا، وأمره أبينا، ودينه قلينا، ثم انصرفت، فقال أبوبكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: ما رأتني، لقد أخذ الله ببصرها عني.
وكان أبو جهل قد حاول أن يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في البيت الحرام، وفيه نزل: فلا صدق ولا صلى، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فقال عدو الله: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله: فليدع ناديه، سندع الزبانية.
وعن أبي هريرة قال: قال أبوجهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم، فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، ليطأ رقبته كما زعم، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً.
اقرأ أيضا:
ابن الجوزي: ابتعد عن هذه الثلاثة تضمن حياة سعيدةعاقبة الصبر على الأذى
قال تعالى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
مرَّ الأنبِياء بأذى كبير من أقوامهم، فتحلَّوا بالصَّبر وواجهوا ذلك بالشِّعار الربَّاني المتألِّق: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12].
ولم يكن الصبر ذلَّة وانْهزامًا، وإنَّما كان زادًا لعمل تغْييريٍّ دؤوبٍ عميقٍ شامل، من شأنِه اجتِثاث الدَّاء من أصله، فلمَّا صدق الربَّانيُّون في الصَّبر وفي السعْي، لم يعُدْ يَعنيهم تَهديد البغاة ووعيدُهم، بل كان ذلك آخِر تَخطيط لهؤلاء قبل البوار؛ {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [إبراهيم: 13]، بِهذه الوقاحة وهذا الصلف تُخيِّر الشرذمة الزَّائغة المعادنَ الأصيلة، بين التنازُل عن المبادئ والنَّفي، فما أشبهَ اللَّيلة بالبارحة!.
لكن عند هذا الحدِّ من الطُّغيان والغطرسة تأخذ السنَّة الإلهيَّة مداها: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 13، 14].
فجاء النصر إذًا وانقلبتِ الموازين لتأخُذَ وضعَها الطبيعيَّ، بعد مصابرة ومثابرة كان للدُّعاة فيها استِمْساك وثيقٌ بِحبْل الله، وعملٌ واعٍ بصير على هدى من سُنن الله .
فالصبر عمل هادئ متواصل، وصبر ساعةٍ، ثمَّ يفرح المؤمنون بنصر الله، وها هو ذا القرآن الكريم يصِف كيْد بطانة السوء، ثم يوجِّه المؤمنين بهذا الهدْي الرفيع: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].