من أكثر ما يضعف الإنسان أمامه نزواته وشهواته حينما تدور الدائرة عليها ويتعرض لبعض البلاء والاختبارات التي لا يصمد أمامها، فتجده في هذا التوقيت يبدأ في طرح تساؤلاته التي يعترض بها على الحكمة الإلهية من هذا البلاء، ومن بينها أسئلته، لماذا يخلق الله الناس فقراء وأغنياء ولماذا لم يخلقهم كلهم أغنياء، ولماذا خلق الله المرض؟، ولماذا يرزق الكافر ويمنع الرزق عن المسلم، وهذه الأسئلة إنما هي نتاج ضعف إيمانه وعدم فهمه للمراد الإلهي، وتمرده على ربه وعلى دينه.
ومن السنن الكونية التي ذكرها الحق في كتابه ليرتكز عليها المؤمن حين ينظر في تضاعيف السماوات والأرض لاستنباط السنن الكونية، لاستخراج العبر منها والصبر على ابتلاءاتها، هي:
أولا: حيادية القوانين الإلهية في رزق أو تمكين المؤمن والكافر:
كتب الله على نفسه العدل في أن يرزق المؤمن والكافر، وترك الحساب على أفعالهم ومعتقداتهم ليوم الحساب حين تقوم القيامة، فالله يعطي على الجهد في الدنيا للمؤمنين والكافرين سواء على قدر ما يبذلونه من الجهد بالطريقة الصحيحة قال تعالى {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [سورة الإسراء: آية20]، وهذا يعني أن التمكين في الدنيا ليس في ذاته مقياسًا للخيرية، وإلا لكان المغول – الذين هجموا على الشرق وأزالوا دولًا ودكُّوا حضارات – خير الناس، وإن كنا مأمورين بأن نبلغ التمكن فيها أيضًا، كما أن التمكين في الأرض والاستمرار في التمكين من لوازم الإيمان، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: آية105].
ثانيا: اختلاف طبائع الناس ومعتقداتهم وألوانهم ولغاتهم: فمن القوانين والسنن سنن الاختلاف، ومن حاول أن يجعل الناس أمة واحدة فمرده إلى الفشل، قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [سورة هود: آية118].
فالله عز وجل يبين لرسوله صلى الله عليه وسلم ولو شاء ربك يا محمد لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ودين واحد، قال قتادة: لجعلهم مسلمين كلهم، وقوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أي ولا يزال الناس مختلفين، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود: آية١١٩]، قال بعض أهل التأويل: هو الاختلاف في الأديان، فتأويل ذلك على رأي هؤلاء: ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتّى من بين مسلم و يهودي، ونصراني، ومجوسي، وغير ذلك.
ثالثا: تدافع الناس وتداول المناصب والسلطات: من السنن الربانية سنة التدافع، قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [سورة البقرة: آية٢٥١]، وقال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [سورة الحج: آية٤٠].
العلو في الأرض لا ينحصر في شعب دون شعب، ولا في قوم دون قوم، {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [سورة آل عمران: آية١٤٠]، إن المداولة توحي بالحركة الدائمة وبالتجدد وبالأمل، وتقرر أن الأيام ليست ملكًا لأحد، ومن ثم لا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم في القمة ستنـزل بهم حركة الأيام إلى الحضيض، ومن هم في القاع الآن ستصعد بهم الحركة نفسها إلى القمة.
فمن الحكم الإلهية ظاهرة التعاقب الحضاري، وهذا أمر ثابت منذ كان للحضارة وجود، وإلا لكانت الإنسانية عرفت حضارة واحدة، فظلت قائمة منذ الأزل إلى ما شاء الله، ثم عاشت الإنسانية في ظلام. فتعاقب الحضارات والأمم والتبدل بين القوة والضعف على مسرح التاريخ؛ شاهد على سنة الله في خلقه.
اقرأ أيضا:
قال له أوصني يا رسول الله.. فماذا قال له.. تعرف على تفاصيله الهدية النبويةرابعا: شروط الاستخلاف في الأرض: من السنن الإلهية الاستخلاف في الأرض ويكون بالإيمان والعمل الصالح، قال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: آية 55]، والاستخلاف في الأرض غير مقصور على عهد الصحابة والخلفاء الراشدين، وإنما هو ثابت من الله تعالى، وسنة مطردة.
وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بداية لسقوط حضاري، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } [سورة المائدة: آية 78 – 79] .
فحينئذٍ سيستشري الفساد في الأرض، ثم سرعان ما يزول الاستخلاف، قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الأنفال: آية٥٣].
فهلاك الأمم مرهون بسبب انغماسهم في الترف والشهوات، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [سورة الإسراء: آية16].
خامسا: الكفر والمعاصي والذنوب سبب لهلاك الأمم: انتهاء الحضارات ما هي إلا نتيجة حتمية للكفر والذنوب، والفسق، والظلم، والمعاصي، هذه سنة الله في خلقه، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة النحل: آية112 و113]، وقال: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [سورة العنكبوت: آية40]، وقال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: آية 52].
وإن نهاية الظلم وشيكة، وعاقبته وخيمة، فهو منذر بزوال العمران، وكما يقال: فدولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} [سورة إبراهيم: آية13]، وعاقبة المكذبين وخيمة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [سورة الأنعام: آية11]، والشرك عاقبته دمار وهلاك، {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ} [سورة الروم: آية42]، والعاقبة للمتقين {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [سورة النور: آية٥٥].
سادسا: الباطل لا يدوم: فالباطل ليس له في الواقع ما يؤيده ويؤازره، فإذا جاء الحق فلا يلبث أن يدفع الباطل، وتكون العاقبة للحق، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقً} [سورة الإسراء: آية81]، ومن المعروف أن الباطل لا يملك أدوات الاستمرار والتمكين في الأرض؛ باعتباره لا يملك الميزان والضابط الذي ينجيه من الانحراف والغرور والمعاصي، وكلها مهلكات، {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [سورة الرعد: آية١٧].
سابعا: الترف والرفاهية لا تدوم: من رحمته سبحانه وتعالى بالناس أنه لم يرد بسط الرزق لهم جميعًا؛ لأنه يفضي إلى المفسدة {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [سورة الشورى: آية27].
لذلك فالرفاهية لا تدوم، وقد نسب إلى عمر بن الخطاب قوله: " اخشوشنوا فإن النعمة لا تدوم" ، ولقد هلكت أمم وزالت دول بسبب انغماسها في الترف والشهوات {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [سورة الإسراء: آية16].