نتفاعل في كثير من الأحيان مع مشكلاتنا، للحد الذي يزيد عن المسموح به في الإسلام، وهو كثرة الشكوى وسوء الظن من تغيير المستقبل، وتحسن الأحوال الاجتماعية والمعيشية والاقتصادية، فترى الكثير من الناس لا يعرفون غير التشاؤم والاكتئاب، وحمل الهم بسبب أو من دون سبب، وكأن بعضهم أصبح مسئولاً عن رزق العباد، وهو من يتحمل نفقات الملايين المسلمين، بل ترى شبابا في ربيع أعمارهم يعيشون حياة كئيبة، وكأن له أبناء يتضورون جوعًا، وكأن عليه ديونًا بمئات الملايين من الجنيهات.
وترى شبابًا ارتضى لنفسه أن يعيش من غير عمل، ويتسول من والديه ما ينفقه على نفسه في المقهى مع أصحابه، مبررًا بأنه لم يجد العمل الذي يناسب تعليمه، وبالتالي لا تجد على لسانه سوى التذمر والتمرد فتشعر وكأنه صاحب مرض مزمن ولا يجد ما ينفقه على علاجه، وهو في النهاية ليس أكثر من إنسان مكتئب سجن نفسه داخل إحباطه ويأسه وتقاعسه عن أداء واجبه.
هروب من المسئولية
ولعل هذا المرض العضال قد انتشر في الآونة الأخيرة، خاصة بين الشباب، من الذين تقف الحياة لديهم عند اختلاق الأباطيل وبث روح التشاؤم، هربا من المسئولية، واعتمادا على أبيه وأمه في إطعامه، وقد كبر ولم يشعر بمسئوليته اتجاههم، خاصة وأنه من الممكن أن يكون له شقيقات تحتاج إلى تجهيزهم للزواج، أو صغار يحتاجون للتعليم، ولا وقت لأبويه أن يتفرغا لعلاج مشكلاته النفسية، ورد إحباطه وتشاؤمه الذي يصدره لهم ولغيره من الناس دون سبب.
فالإسلام نهى بشدة عن التشاؤم، واليأس والإحباط، وأمر بالفأل الحسن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يعجبني الفأل الحسن"، وهي صفة رائعة تعطي المؤمن قوةً وعزيمةً، وهمةً وطاقةً عظيمةً، فيرى الحياة جميلة، ويرى البعيد قريبًا، والصعب سهلًا، والمستحيل ممكنًا.
فالتفاؤل، وحسن الظن بالله، يأتيان بالخير، فكل متوقع آت كما قال علي بن أبي طالب، وهذا ليس ضربا في الودع أو علما بالغيب، ولكن المقدمات تنبئ بالنتائج، فكيف تتصور أن شابا يرفض العمل وينظر إلى الحياة سوداء طوال الوقت، وأنه يبث التشاؤم في نفسه وفي غيره، ويرى الحياة مظلمة طوال الوقت؟، فهل تتصور أنه سيصبح مليونيرا، أم شخصا نجاحا مثلا وهو على هذه الحالة من الإحباط واليأس.
وضع في مقابل هذا الشخص الكئيب شخصًا يحسن الظن في الله ويخرج للعمل ويسأل هذا وذاك عن أي فرصة، ويسعى على رزقه، فهل يخزيه الله في رزقه.
فالناس في حاجة ملحة إلى مَن يبثُّ في نفوسهم الأمل، ويُوقِد في حياتهم روح التفاؤل، وحسن الظن بالله تبارك وتعالى، خاصة إذا اليأس والقنوط يتسلَّلُ إلى النفوس، لذلك فاليأس مرض فتَّاكٌ، إذا تمكَّنت من قلبِ مؤمنٍ، أحرقته، وأطفأت نوره، وشتَّتتْ أمره، وحطَّمت آماله، وقتلت عزيمته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فانظر إلى النبي مع صاحبه أبي بكر الصديق إذ هما في الغار محاصرين من المشركين، وقال له أبو بكر يا رسول الله لو نظر أحدهما تحت قدمه لرآنان فرد النبي صلى الله عليه وسلم رد الواثق من ربه: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا".
وفي غزوة الأحزاب العصيبة يوم اجتمع ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام أكثر من عشرة آلاف مقاتل، واشتغل طابور المنافقين بالتخذيل وتحطيم المعنويات، ومع نقص المؤنة وقلة الطعام أصابهم جوعٌ شديد، حتى ربطوا الحجارة على بطونهم، ووافق ذلك بردٌ شديد وريح باردة جدًّا، وهم في العَرَاءِ يحفرون خَنْدقًا طويلًا، فاجتمع عليهم خوف شديد، وبرد شديد، وجوع شديد، وإرهاق من الحفر شديد شديد، ووصل بهم الحال كما وصفهم الله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]، وكان آخر وأشد ما أصابهم غدرُ جيران السوء؛ يهود بني قريظة، فقد نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، واصطفُّوا مع الأحزاب، وقد كانوا ظهرًا للمسلمين، وكانوا يجاورون الحصن الذي يحتمي فيه نساء وأطفال المسلمين، فلما أُخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ((الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين، والذي نفسي بيده، ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوفَ بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح الكعبة، وَلَيُهْلِكَنَّ الله كسرى وقيصر، ولَتُنْفَقَنَّ كنوزهما في سبيل الله.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ((عَرَضَتْ لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المَعَاوِلُ، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المِعْوَلَ، فقال: بسم الله، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيحَ الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانية، فقطع الثلث الآخر، فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارسٍ، والله إني لأُبصر قصرَ المدائن أبيضَ، ثم ضرب الثالثة، وقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ)).
وكان كلما خيَّمَ على النفوس اليأس والقنوط، ازداد صلى الله عليه وسلم استبشارًا وتفاؤلًا؛ قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: ((أتيتُ النبيَّ وهو مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً، وهو في ظل الكعبة، وقد لَقِينا من المشركين شدةً، فقلت: يا رسول الله، أَلَا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو مُحْمَرٌّ وجهَهُ، فقال: لقد كان مَن قبلكم لَيُمْشَطُ بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُوضع المِنشارُ على مَفْرِقِ رأسه، فيُشَقُّ باثنينِ ما يصرِفُهُ ذلك عن دينه، ولَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكب من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه)).
اقرأ أيضا:
كيف يكشف الشح عوراتك أمام الأخرين؟وهذا إبراهيم عليه السلام دفعه تفاؤله وحسن ظنه بربه أن يتضرعَ ويدعوَ الله عز وجل ليرزقه ولدًا صالحًا، رغم تقدمه في العمر، وأنه صار شيخًا كبيرًا؛ فقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الصافات: 100]، فاستجاب له ربه، وَوَهَبَهُ إسماعيل وإسحاق.
وهذا يعقوب عليه السلام يُبتلَى بفقد ولديه، فيأمر بقية أبنائه بقوله: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام يحاصره فرعون وجنوده، حتى صاح به بنو إسرائيل: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فقال الواثق بربه، والذي لم يتسرب اليأس إلى قلبه: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
يقول الله تعالى :﴿ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
وقال تعالى ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 81]، فكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له)).