لم يبك النبي إلا على عزيز.. فما الذي أبكاه صلى الله عليه وسلم؟
بقلم |
أنس محمد |
الاربعاء 18 سبتمبر 2024 - 11:43 ص
كان النبي صلى الله عليه وسلم ورغم شدة إيمانه، ورؤية مقعده في الجنة، ومعرفته بأنه مفتاحها ودليلها، ورغم يقينه بنصر الله، ورغم الشفاعة العظمى التي منحت له من ربه، ورغم وعد الله له بالنصر والرضا: " ولسوف يعطيك ربك فترضى"، إلا أنه كان كثير البكاء.
ولم يبك النبي صلى الله عليه وسلم إلا على عزيز، رقة منه، ﻓﻘﺪ ﺑﻜﻰ ﺭﺣﻤﺔ بأﻣﺘﻪ، ﺭﻭﻯ ﻣﺴﻠﻢ ﻓﻲ ﺻﺤﻴﺤﻪ ﻣﻦ ﺣﺪﻳﺚ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﺍﻟﻌﺎﺹ: ﺃﻥ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺗﻼ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻓﻲ سورة ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ: “ﺭَﺏِّ ﺇِﻧَّﻬُﻦَّ ﺃَﺿْﻠَﻠْﻦَ ﻛَﺜِﻴﺮًﺍ ﻣِّﻦَ ﺍﻟﻨَّﺎﺱِ ﻓَﻤَﻦ ﺗَﺒِﻌَﻨِﻲ ﻓَﺈِﻧَّﻪُ ﻣِﻨِّﻲ ﻭَﻣَﻦْ ﻋَﺼَﺎﻧِﻲ ﻓَﺈِﻧَّﻚَ ﻏَﻔُﻮﺭٌ ﺭَّﺣِﻴﻢٌ".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رقيق القلب رحيم النفس، يعطف على الصغير ويجل الكبير، ويعرف لكل ذي حق حقه، رغم أنه كان رجلاً مهيباً لم تعرف البشر مثله قبله ولا بعده، ومع ذلك كان رحيماً حتى مع أعدائه، حريصاً على هداية قومه، خائفاً على أمته من عقوبة الله تعالى والتغير بعد موته، يبكي إذا رأى موقفاً محزناً أو مؤثراً، صلوات ربي وسلامه عليه.
ﻭﺑﻜﻰ النبي صلى الله عليه وسلم لفراق أحبابه، وأكثر ما بكى عند استشهاد حمزة عمه ووفاة زوجته خديجة رضي الله عنها، ﻭﻋﻨﺪ ﻣﻘﺘﻞ ﺟﻌﻔﺮ، ﻭﻋﻨﺪ ﻭﻓﺎﺓ اﺑﻨﻪ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ، ﻭﻋﻨﺪ ﻭﻓﺎﺓ حفيده من إﺣﺪﻯ ﺑﻨﺎﺗﻪ، ﻭﺑﻜﻰ لما ﺯﺍﺭ ﻗﺒﺮ ﺃﻣﻪ ﻭﺃﺑﻜﻰ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻪ، ﻭﺑﻜﻰ ﻟﻤﺎ ﻧﺰﻝ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: “ﻟَّﻮْﻻَ ﻛِﺘَﺎﺏٌ ﻣِّﻦَ ﺍﻟﻠّﻪِ ﺳَﺒَﻖَ ﻟَﻤَﺴَّﻜُﻢْ ﻓِﻴﻤَﺎ ﺃَﺧَﺬْﺗُﻢْ ﻋَﺬَﺍﺏٌ ﻋَﻈِﻴﻢٌ ” {ﺍﻷﻧﻔﺎﻝ} 68.
وعن عطاء بن يسار قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت لعبيد بن عمير: قد آن لك أن تزورنا، فقال: أقول يا أمه كما قال الأول: زر غِبّاً تزدد حُباً، قال: فقالت: دعونا من رطانتكم هذه، قال ابن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال: فسكتت ثم قالت:
لما كان ليلة من الليالي قال: (يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي) قلت: والله إني لأحب قربك وأحب ما سرك.
قالت: فقام فتطهر ثم قام يصلي.
قالت: فلم يزل يبكي حتى بل حجره.
قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل لحيته.
قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} (190) سورة آل عمران، الآية كلها.3
وعن البراء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة. فجلس على شفير القبر، فبكى حتى بل الثرى، ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: (اللهم أين ما وعدتني؟ اللهم أنجز ما وعدتني، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً) قال: فما زال يستغيث ربه عز وجل ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (9) سورة الأنفال .
فلما كان يومئذ والتقوا فهزم الله عز وجل المشركين فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليا وعمر رضي الله عنهم فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، فإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونون لنا عضداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب) قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر رضي الله عنه ولكني أرى أن تمكنني من فلان -قريباً لعمر- فأضرب عنقه وتمكن علياً رضي الله عنه من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أبو بكر رضي الله عنه، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء فلما أن كان من الغد قال عمر رضي الله عنه: غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو قاعد وأبو بكر رضي الله عنه وإذا هما يبكيان فقلت: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك! فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة) لشجرة قريبة، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (67) سورة الأنفال، إلى قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} (68) سورة الأنفال، من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم.
بكاؤه عند سماع القرآن وفي الصلاة:
وكان النبي كثير البكاء عند سماع القرآن وفي الصلاة، عن عبدالله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء"، وفي رواية: "وفي صدره أزيز كأزيز المرجل".
وعن عبدالله بن مسعود قال: ((قال لي رسول الله: اقرأ عليَّ القرآن، قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أُنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت النساء، حتى إذا بلغت: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، رفعتُ رأسي - أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي - فرأيتُ دموعه تسيل))، وفي رواية البخاري: ((حتى أتيتُ إلى هذه الآية: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، قال: حسبك الآن، فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تذرفان)) صلى الله عليه وسلم.