لا تتخيل نفسك وأنت دائم السعادة وكامل الصحة والعافية، إلا وقد مللت منها،فتجحد حقها عليك، ولا يرضيك منها إلا أن تحرم منها، ففي هذا الوقت ستعرف قيمتها الحقيقية، وتعرف كيف كنت ترتع في نعيم الله، وكيف كنت تمتلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى، ولكنك قد جحدت حقها ومستحقها من الحمد والشكر والصدقة عنها، حتى تزول من أمامك.
بعض الأشخاص لا يرون حمدًا ولا شكرًا على نعمة أنعم الله بها عليه، فهل مررت يومًا بإحدى مستشفيات الامراض الخطر والمتوطنة، مثل السرطانات، أو معاهد الأورام، ورأيت كيف يقف المبتلون من الناس ينتظرون دورهم من أجل تلقي العلاج؟، هل مررت يومًا بأحد الناس وهو يصرخ من الألم؟، ولا يجد من يسعفه أو يغيثه أو يخفف عليه ألمه؟، هل رأيت يومًا رجل يكد ويعمل من أجل أن يوفر القليل من قوت يومه لأبنائه الفقراء الذي ربما لا يجدون مأوى لهم ولا لقمة تسد جوع بطونهم؟.
حينما تنظر إلى هؤلاء المبتلين، وتضع نفسك محلهم، سوف تعرف الحقيقة، وتعرف قيمة نِعْمَةُ الصحة والعافية، والسلامةُ من كلِّ ما يُكدر العيش؛ من الآلام والأسقام والأحزان.
الصحة وحدها تاجٌ على رؤوس الأصِحَّاء لا يعرفها إلاَّ المرضى، ولكن الناس لِطُولِ إِلْفِهِم للصحة والعافية لا يشعرون بها، ولا يقدرونها حقَّ قدرها، فلو أُصيب الإنسانُ بمرضٍ فإنه لا يجد طعمَ الحياة؛ بل لا يستطيع القيامَ بأمور الحياة على الوجه المطلوب، وربما يتمنَّى البعضُ الموتَ هرباً من آلام المرض، نسأل الله العفو والعافية.
ومن أعظم النِّعم نعمة العافية، التي لا تَطِيبُ الحياةُ إلاَّ بها؛ لذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» .
وامتدح النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصِّحةَ بقوله: «لاَ بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النِّعَمِ».
فالصحة التي لا تعرف قيمتها أيها المعافىن ربما تجد من أصحاب الملايين من يحسدك عليها، فالأغنياءُ أنفسُهم يغبطون الأصحاءَ على العافية؛ فعن قبيصة بن ذؤيب قال: (كُنَّا نَسْمَعُ نداءَ عبدِ الملكِ من وراءِ الحُجْرةِ في مرضة: يا أهل النِّعَم! لا تستقلُّوا شيئاً من النِّعَم مع العافية).
فيجب على الفقير المُعافَى أنْ يحمد اللهَ تعالى على نِعمةِ العافية، ولا يحسد الأغنياءَ على غِناهم، فكم من غنيٍّ بالمال؛ فقيرٍ بالعافية. فالغِنى لا ينفع صاحِبَه إذا سُلِبت منه العافية، حتى لا يأكل إلاَّ القليل من الأطعمة المعدودة، وكان يُقال: (صِحَّةُ الجِسم، أوفَرُ القِسْم). فمَنْ أُوتِيَ العافيةَ فظنَّ أنَّ أحداً أُعْطِيَ أكثرَ منه؛ فقد قلَّل كثيراً، وكثَّر قليلاً.
كما يجب أن يعرف المسلمُ عِظَمَ قَدْرِ العافية، ويسعى في اغتنام العمر؛ لأنه قصير، يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «اغْتَنِمْ خَمْساً قبْلَ خَمْسٍ: حَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ».
وقال عليه الصلاة والسلام: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» رواه البخاري.
أسباب الحفاظ على نعمة الصحة والعافية:
من أاول أسباب الحفاظ على نعمة الصحة والعافية التقدم إلى الله بالحمد والشكر كما ينبغي لجلال وجهم ووافر نعمته وعظيم سلطانه، يقول تعالى في سورة إبراهيم: " وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)".
كما يجب حمايةُ الجَسَدِ مِمَّا يَضُرُّه، والتَّخلُّصُ من الحقد والحسد، و ضغوطات الحياة، قال ابن القيم - رحمه الله -: (ولَمَّا كانت الصَّحةُ والعافيةُ من أجَلِّ نِعَم الله على عبده، وأجْزَلِ عطاياه، وأوفرِ مِنحِه - بل العافيةُ المُطلقةُ أجَلُّ النِّعَمِ على الإطلاق - فحقيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حظاً مِن التوفيق مراعاتُها، وحِفظُها، وحِمايتُها عمَّا يُضادها).
فالعافِيَةُ من أجَلِّ النِّعَمِ، وهي "كَنْزٌ عَظِيمٌ"، ويُحَصَّلُ هذا "الكَنْزُ العَظِيمُ" بالدعاءُ؛ فقد تَواتَرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دُعاؤه بالعافية، وثَبَتَ عنه ذلك قَولاً منه، وتَعْلِيمًا لِغَيرِه "لفظًا، ومعنًى" مِنْ نَحْوِ خَمْسِينَ طَرِيقًا.
وقال شَكَلُ بْنُ حُمَيْدٍ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي دُعَاءً أَنْتَفِعُ بِهِ. قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ: عَافِنِي مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَلِسَانِي، وَقَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي».قَالَ وَكِيعٌ رحمه الله: («مَنِيِّي» يَعْنِي: الزِّنَا وَالْفُجُورَ).
وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَدْعُو؟ قَالَ: «تَقُولِينَ اللَّهُمَّ: إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي» صحيح – رواه ابن ماجه. وكانَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها تقول: «لَوْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؛ لَكَانَ أَكْثَرَ دُعَائِي فِيهَا: أَنْ أَسْأَلَ اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ».
وعَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ: «سَلِ اللَّهَ العَافِيَةَ». فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ؛ فَقَالَ لِي: «يَا عَبَّاسُ! يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».
فالعافِيَةُ في الدِّين: طَلَبُ الوِقايَةِ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ يَشِينُ الدِّينَ، كالشِّرْكِ، والمَعاصِي، والابْتِداعِ.
والعافِيَةُ في الدُّنيا: طَلَبُ الوِقَايَةِ مِنْ شُرورِها، ومَصَائِبِها، وكُلِّ ما يَضُرُّ العَبْدَ مِنْ مُصِيبَةٍ، أو بَلاَءٍ، أو ضَرَّاء.
والعافِيَةُ في الآخِرَة: طَلَبُ الوِقايَةِ مِنْ أَهْوالِ الآخِرَةِ، وشَدَائِدِها، ومَا فِيهَا مِنْ أَنْواعِ العُقُوبات.
والعافِيَةُ في الأَهْل: وِقَايَتُهم مِنَ الفِتَنِ، وحِمايَتُهم مِنَ البَلاَيَا والمِحَنِ، والأَمْراضِ والأَسْقام.
والعافِيَةُ في المَال: السَّلامَةُ مِنَ الآفاتِ التي تَحْدُثُ فيه، وحِفْظُه مِمَّا يُتْلِفُه؛ مِنْ غَرَقٍ، أو حَرِيقٍ، أو سَرِقَةٍ، ونحو ذلك. فجَمَعَ في ذلك سُؤالَ اللهِ الحِفْظَ مِنْ جَمِيعِ العَوارِضِ المُؤْذِيَةِ، والأَخْطارِ المُضِرَّة.
اقرأ أيضا:
كيف يكشف الشح عوراتك أمام الأخرين؟