حينما تمر سورة طه على أذنيك، وتستمع لأول آيتين في السورة الكريمة، وتلمس رقة وعذوبة العزاء الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم، ليفك كربه ويفرج همه، ويبعث له بكلمات تلهمه الصبر والقوة، في مواجهة سخرية المشركين وأذاهم واجتماعهم على محاربة النبي.
"طه" عزاء رباني
يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم معزيا له ومثبتا لقوته:" طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4) ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8) ".
فحين تسمعها، وتلمس قلبك وأنت ممتلئ بالهموم، وتعيها أذنك، ويتفاعل معها فؤادك، تشعر وكأن الله عز وجل يخاطبك بها أنت أيضا، بألا تحزن ولا تغتم، فالله لم يخلقنا ليعذبنا، ولكن لكي يعلم المؤمن من المشرك، والصالح من المفسد، وما هذه التكليفات التي يكلفنا بها الله إلا من أجل صلاح أحوالنا في الدنيا والأخرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، وبالرغم مما لاقاه من المشركين من استهزاء وسخرية وأذى بسبب دعوته الخالدة، ينزل عليه ربه هذه الآيات الرقيقة، لتثبت فؤاده، وتعلن له أن هذا القرآن لم ينزل عليه ليشقى به، ولكن تذكرة لمن يخشى، وسعادة لمن يعتبر، فهذا القرآن من الله القادر القاهر فوق عباده الذي "لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ"، وهذا القرآن لكي يكون تأييدا لك، قال تعالى في سورة الفرقان: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)".
افتتحت "طه" بملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لم يُرِد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك، أي تصيبه المشقة، ويُضنيه التعب، ولكن أراد أن يُذِّكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضاً بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية، ولولا ذلك لما ادكروا بالقرآن.
وفي هذه الفاتحة تمهيد لما يَرِد من أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالاضطلاع بأمر التبليغ، وبكونه من أولي العزم من الرسل، مثل موسى عليه السلام، وأن لا يكون مفرطاً في العزم، كما كان آدم عليه السلام قبل نزوله إلى الأرض.
فرسالته صلى الله عليه وسلم ليست شِقوة كُتبت عليه، وليست عناء يُعَذَّب به، إنما هي الدعوة والتذكرة، وهي التبشير والإنذار. وأَمْرُ الخلق بعد ذلك إلى الله الواحد الذي لا إله غيره، المهيمن على ظاهر الكون وباطنه، الخبير بظواهر القلوب وخوافيها، الذي تخضع له الجباه، ويرجع إليه الناس طائعهم وعاصيهم، فلا على الرسول ممن يكذب ويكفر، ولا يشقى؛ لأنهم يكذبون ويكفرون.
و تعرض السورة بين مطلعها وختامها قصة نبي الله موسى عليه السلام من بداية الرسالة إلى وقت اتخاذ بني إسرائيل للعجل بعد خروجهم من مصر، مفصلة مطولة؛ وبخاصة موقف المناجاة بين الله وكليمه موسى، وموقف الجدل بين موسى وفرعون. وموقف المباراة بين موسى والسحرة. وتتجلى في أثناء هذه القصة رعاية الله لموسى الذي صنعه على عينه، واصطفاه لنفسه، وقال له ولأخيه: {لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى} (طه:46).
وضرب الله مثلا في سورة طه للنبي صلى الله عليه وسلم، بما لاقاه موسى عليه السلام، حينما خرج بأهله مطاردا، وربه يهيئه ويعدّه للمهمة العظيمة التي أرادها له وهي أن يذهب إلى فرعون .
فجاء هذا الخطاب في أول سورة طه في الآيات التالية في قوله تعالى :” إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16).
فهذا التأييد الذي حدث لموسى بالمعجزات الحسية، لوقته وحدثه، حينما كلفه ربه بأن يذهب لفرعون، جاء بعده القرآن منزلا على محمد عليه الصلاة والسلام كمعجزة خالدة، وليست وقتية، تزول بزوال أحداثها، ولكنها باقية حتى يوم القيامة، كلما سمعه أحد من البشر.
كلمات يلين لها الحديد
وسورة طه كانت سببا في إسلام رجل في غلظة عمر بن الخطاب، لتجعل منه الفاروق بعد إسلامه، فقد نزلت سورة طه قبل إسلام عمر رضي الله عنه.
و روى الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له إن ختنك وأختك قد صبوا فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب وكانوا يقرءون "طه" وحين صفع عمر أخته فاطمة على وجهها بعد علمه بإسلامها وزوجها، فرق قلبه لأخته، وقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرأه وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب فقالت له أخته إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون فقم فاغتسل أو توضأ فقام عمر رضي الله عنه وتوضأ وأخذ الكتاب فقرأ "طه" فأسلم.
اقرأ أيضا:
يوسف الصديق.. بماذا دعا ربه في محبسه؟طوبى لأمة نزلت عليها طه
وأسند الدارمي أبو محمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت طوبى لأمة ينزل هذا عليها وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا» قال ابن فورك قوله: إن الله تبارك وتعالى قرأ طه ويس، أي أظهر وأسمع وأفهم كلامه من أراد من خلقه الملائكة في ذلك الوقت والعرب تقول قرأت الشيء إذا تتبعته وتقول ما قرأت هذه الناقة في رحمها سلا قط أي ما ظهر فيها ولد فعلى هذا يكون الكلام سائغا وقرأته أسماعه وأفهامه قرأته يخلقها وكتابة يحدثها وهي معنى قولنا قرأنا كلام الله ومعنى قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}.
جاء في فضل سورة طه بعض الأحاديث والآثار، نذكر منها:ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسم الله الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، في سور ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه). قال القاسم: فالتمستها، فإذا هو قوله سبحانه: {وعنت الوجوه للحي القيوم} (طه:111)، رواه ابن ماجه والطبراني في "المعجم الأوسط".
وروى أبو يعلى عن معقل بن يسار رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا بالقرآن، أحلوا حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، ما تشابه عليكم منه فردوه إلى الله، وإلى أولى العلم من بعدي كما يخبروكم، وآمنوا بالتوراة، والإنجيل، والزبور، وما أوتي النبيون من ربهم، وليسعكم القرآن، وما فيه من البيان، فإنه شافع مُشَفَّع، وماحِلٌ مُصَدَّق -معناه: خصم مجادل مُصَدَّق-، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأولى، وأعطيت طه، والطواسين، والحواميم، من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة)، ذكره ابن حجر في "المطالب العالية".
وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله الضيف، أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} (طه:132)، رواه الطبراني.