ورد سؤال إلى دار الإفتاء المصرية يقول: "ما حكم تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور صالحي الأمة؟".
ويجيب الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، قائلا: "شيئان لا بد من التأكيد عليهما قبل الجواب على هذا السؤال:
أولهما: أن الخلاف الوارد في هذه المسألة ونظائرها من جنسها خلافٌ سائغٌ لا يترتب على الأخذ برأيٍ معينٍ منه كفرٌ وإيمانٌ، فمآل الخلاف في مثل تلك المسائل إلى صحة أحد الأقوال وضعف المقابل، وهذا شأن الظنيات، والغفلة عن هذا الضابط تؤدي إلى خطأ التصور والحكم.
ثانيهما: أن مجرد التسليم بكون تلك المسألة من قبيل الظنيات التي لا تتمخض الأقوال فيها إلى الكفر والإيمان، مع عدم بحثها في إطارها الخلافي الذي بُحِثَت فيه بين الفقهاء؛ يؤدي أيضًا إلى خطأ في الحكم.
وتقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور صالحي الأمة نوع من التبرك بهم، وأجازه غير واحد من العلماء إن قُصِد به التبرك، لا إن قُصِد التعظيم، وهذا هو المعتمد عند الشافعية، نصَّ عليه غير واحد من علمائهم؛ يقول الإمام النووي في "المنهاج": [والتزام القبر أو ما عليه من نحو تابوت ولو قبره صلى الله عليه وآله وسلم بنحو يده وتقبيله بدعة مكروهة قبيحة] اهـ.
والدليل على جواز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء الصالحين؛ ما ورد من جواز تقبيل الحجر الأسود واستحباب ذلك، فقد بوَّب البخاري: (باب تقبيل الحجر)، وأورد فيه حديثين عن عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما، وبوَّب مثله أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والدارمي وغيرهم؛ فعن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الـحَجَر فقبَّله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليهوآله وسلم يقبلك ما قبلتك.
فقد استنبط بعض العلماء من مشروعية تقبيل الأركان جواز تقبيل كل من في تكريمه وتشريفه تعظيم لله عز وجل ويرجى البركة والمثوبة بتوقيره ومحبته من آدمي وغيره، ودخل في ذلك كتب العلم والمصحف الشريف وقبور الصالحين.
اقرأ أيضا:
فرض غرامة على المشتري الذي يتأخر فى السداد.. هل يجوز؟وقد ذكر الحنفية -وهو المذهب عند الحنابلة- جواز تقبيل المصحف تكريمًا له؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ المصحف كل غداة ويقبِّله، ويقول: "عهد ربي ومنشور ربي عز وجل"، وكان عثمان رضي الله عنه يقبِّل المصحف ويمسحه على وجهه. راجع: "رد المحتار" (5/ 246، ط. إحياء التراث)، و"كشاف القناع" (1/ 137، ط. دار الفكر).
وقال الإمام النووي في "التبيان في آداب حملة القرآن" (1/ 191 ط3. دار ابن حزم): [وروينا في "مسند الدارمي" بإسناد صحيح عن ابن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي] اهـ.
وما نقل عن الإمام أحمد من تقبيل قبر النبي، نقله عنه ابنه في "العلل" (2/ 492، ط. دار الخاني بالرياض) قال: [وسألته -السائل عبد الله بن أحمد بن حنبل والمسؤول هو والده- عن الرجل يمس منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتبرك بمسه وتقبيله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى الله جل وعز؟ قال -يعني أحمد بن حنبل-: لا بأس بذلك] اهـ بتصرف.
ولا يقال: إن جواز التقبيل لابد فيه من توقيف؛ لأن قول عمر رضي الله عنه: ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبلك ما قبلتك معارَض بما روي عنه من تقبيل المصحف، وبما روي عن غيره كما سبق، ولا توقيف فيه، ولعل ما قاله عمر رضي الله عنه رأي له وأنه لا توقيف في مثل ذلك، فالأمر واسع، وقد رد الإمام الذهبي على مَن قال: لِمَ لَم ينقل عن الصحابة تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال معلِّلًا: [لأنهم عاينوه حيًّا، وتملوا به، وقبَّلوا يده، وكادوا يقتتلون على وضوئه، واقتسموا شعره المطهَّر يوم الحج الأكبر، وكان إذا تنخَّم لا تكاد نخامته تقع إلا في يد رجل فيدلك بها وجهه، ونحن: فلما لم يصح لنا مثل هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام والتبجيل والاستلام والتقبيل، ألا ترى كيف فعل ثابت البناني؟ كان يقبِّل يد أنس بن مالك ويضعها على وجهه ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -ثم أورد توفيقًا عجيبًا بين المجوِّزين والمانعين فقال:- وهذه الأمور لا يحرِّكها من المسلم إلا فرط حبه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هو مأمور بأن يحب الله ورسوله أشد من حبه لنفسه وولده والناس أجمعين ومن أمواله ومن الجنة وحورها، بل خلق من المؤمنين يحبون أبا بكر وعمر أكثر من حب أنفسهم. حكى لنا جندار أنه كان بجبل البقاع فسمع رجلًا سب أبا بكر فسل سيفه وضرب عنقه، ولو كان سمعه يسبه أو يسب أباه لما استباح دمه، ألا ترى الصحابة في فرط حبهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا: ألا نسجد لك؟ فقال: لا، فلو أذن لهم لسجدوا له سجود إجلال وتوقير، لا سجود عبادة كما سجد إخوة يوسف عليه السلام ليوسف، وكذلك القول في سجود المسلم لقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التعظيم والتبجيل لا يكفر به أصلًا، بل يكون عاصيًا، فليعرف أن هذا منهي عنه، وكذلك الصلاة إلى القبر] اهـ. ينظر: "معجم الشيوخ الكبير" للذهبي (1/ 73، ط. مكتبة الصديق بالطائف).
فالأمر دائر مع فرط المحبة والشوق.
ومثل هذا التوفيق قاله ابن حجر الهيتمي في "رسالته"، فبعد أن ذكر قول المحب الطبري في جواز تقبيل القبر النبوي؛ قال: [وهذا محمول أيضًا على من به استغراق في المحبة، وشدة الشوق الذي يحمله على الشغف الذي يحصل للمحب قد يستغرقه حتى يكون ما يفعله لا يُلام عليه، فإنه قد تعتريه حالات لا يطيقون دفعها إلا بأن يحدث منهم فعل ذلك...
ثم قال: وقول ابن حجر والطبري -أي: في جواز مسح القبر النبوي- بالجواز لا ينافي الكراهة، فإنه يجوز فعل الشيء وهو مكروه، أو يحمل فعلهم ذلك على الاستشفاء كما حكي عن ابن المنكدر رضي الله عنه أنه كان يصيبه الصُّمَات، فكان يضع خده على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعتب عليه في ذلك فقال: إنه يصيبني خطرة فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو يحمل على التبرك، فإنه حكي عن المنكدر أنه يأتي موضعًا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع، فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموضع -أراه قال: في النوم-. والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، فناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه، وناس أناة وتارة يتأخرون، والكل خير] اهـ. ينظر: "تحفة الزوار إلى قبر النبي المختار" لابن حجر (ص: 26-28، ط. دار الصحابة للتراث بطنطا).
اقرأ أيضا:
هل الزواج بأحد قدر مكتوب أم قرار واختيار من الإنسان؟وقد يوجَّه النهي عن تقبيل القبر النبوي بأن النهي عنه تأدبًا، فليس له علاقة من قريب أو بعيد بمسائل الإيمان والكفر، وقد نقل ابن حجر عن الحليمي عند الكلام على آداب زيارة القبر النبوي قوله: [يكره إلصاق البطن والظهر بجداره، وكذا مسحه بيده وتقبيله والسجود عليه، بل من الآداب أن يبعد عنه كما كان يبعد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان حيًّا] اهـ. فالنهي عن ذلك من قبيل الآداب؛ فلا مدخل للكفر والشرك. راجع: "تحفة الزوار" (ص: 20).
وأورد ابن حجر أخبارًا في جواز تقبيل قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فأورد عن يحيى بن سعيد شيخ الإمام مالك رضي الله عنه أنه لما أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا. ثم قال: [قال ابن جماعة: وهذا يبطل ما نقل عن النواوي من الإجماع على ترك ذلك. وقال السبكي: إن عدم التمسح بالقبر الشريف ليس مما قام الإجماع على تركه، فإنه ورد في رواية أن مروان بن الحكم رأى أبا أيوب الأنصاري يلزم القبر فأخذ برقبته فالتفت إليه فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، وقد ورد أيضًا أن بلالًا لما قدم لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى القبر الشريف فجعل يبكي ويجزع وجهه إليه] اهـ. ينظر: "تحفة الزوار" (ص: 21-22).
وعلى ذلك: فتقبيل القبر الشريف وقبور الأولياء الصالحين جائزٌ تبركًا، ونهيب بالمسلمين عدم التفرق بسبب الأخذ برأي معين في هذه المسائل، فالعمل على لمِّ الشمل آكد وأوجب.