يندفع بعض المتخصصين في العلوم الشرعية إلى الفتوى، وربما يحمل المفتي على التسرع في الفتيا، وهمه بأن الإسراع براعة، والتروي عجز، ولأن يتروى ويبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يتعجل، فيضل ويخل، وقد كان الحسن البصري يقول: "إن أحدكم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لجمع لها أهل بدر.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يُسأَل عن المسألة فيتفكر فيها شهرًا، ثم يقول: "اللهم إن كان صوابًا فمن عندِكَ، وإن كان خطأً فمن ابن مسعود".
ومن الأسباب التي تُزيِّن للمتعالم الفتوى بغير علم ما يلي:
قلة التدين:
وهي بلوى ابتُلي بها كثير من أشباه العلماء، ومعهم قِلَّة من العلماء، فقلَّت تقواهم لله عز وجل، واجترؤوا على مخالفته، فحوَّروا النصوص، مضيعين العبادات ومغلِّبين العادات المخالفة للشرع بدعوى أن الدين يسر، وأنه صالح لكل زمان ومكان، كما لم يتورعوا في تبَنِّي الآراء الشاذة والأقوال الضعيفة، التي وجدت لها مريديها من العامة الذين زيَّنت لهم أنفسهم زخرفها، فتقبلوها ودافعوا عنها بدعوى أنها صادرة من علماء اجتهدوا في فهم الواقع المعاصر وحاجات المسلم فيه، كالربا والمجون والاختلاط وغير ذلك.
وفي هذا النوع من اللامبالاة والتساهل في دين الله يقول الإمام النووي: "يحرم التساهل في الفتوى، ومن عُرِف به حَرُم استفتاؤه".
حب الشهرة والظهور:
حيث صار مَن لا فقه له، ولا علم يرفعه بين الناس ويجعله من الخاصة، يختصر الطريق إلى القمة بسياسة خالف تعرف، فيشذ في فتاويه بحيث يثيرُ فضولَ العامة فيتتبَّعون أقواله، وغضبَ الخاصة فيردون عليه، فتشهد الساحة موجة من الفتاوى والفتاوى المضادة، ويحقق المتعالم مراده من خلال الظهور على الفضائيات، وعلى المواقع الإلكترونية مثل "يوتيوب" و"إنستجرام" و"فيسبوك" و"توتير".
اظهار أخبار متعلقة
الجهل بالضوابط الشرعية للفتوى، واعتماد التأويل والتحريف:
الأصل فيمن يتصدر للفتوى أن يكون أهلًا لها بأن تتوفر فيه الشروط التي لا يكاد كتاب فقهي يخلو منها، لكن الملاحَظ على الواقع أن بعض تجار الفتوى برعوا في التأويل والتحريف بقدر ما فشلوا بالتقيُّد بالقيود الشرعية للمفتي، وفهموا النصوص على غير وجهها، إما اتباعًا لشهوة، أو إرضاءً لنزوة، أو حبًّا لدنيا، أو تقليدًا أعمى للآخرين، أو خوفًا من أصحاب السلطة.
اتباع الهوى:
من المزالق الخطرة على المفتي أن يتبع الهوى وبخاصة أهواء الرؤساء وأصحاب السلطة، الذين تُرجَى هداياهم، ويهاب جانبهم، فيسايرهم أشباه العلماء مسارعين إلى تزييف الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه، في حين يتعين على المفتي إقامة المستفتي على الجادة القويمة فلا يميل به جهة تشدد غال، ولا يجنح به جهة ترخص جافٍ.
وسائل الإعلام:
لعل أخطر الأسباب التي ساعدت في استفحال هذه الظاهرة هي وسائل الإعلام بشتى أنواعها المرئية والسمعية والإلكترونية، وقنوات الإثارة الإعلامية، ولا ينكر أحد الدور الإيجابي للقنوات الملتزمة الشاعرة بعِظَم الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقها الإسلام والمسلمين، لكن كثيرًا وربما دون قصد يُسأل العالم على الهواء عن مسألة خاصة لا تتعدى بحيثياتها دائرة المستفتي، ثم يجيب إجابة عامة، ما يسبب فوضى شرعية قد لا يتفطن لها العالِم ولا القائمون على هذه القنوات.