قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "من زهد في الدنيا هانت عليه المصائب".
لا يلتفت أحدنا حينما تكتمل سعادته بشيئ من الأشياء مثل شراء سيارة جديدة، أو التعيين في منصب مهم، أو العيش في بيت أو قصر فخم، أو الذهاب كل يوم بالطائرة لبلد غني يستمتع فيه بالمناظر الخلابة، إلا أن كل متعة في الدنيا زائلة، وأن السيارة الجديدة من الوارد أن تبلى أو تتعرض لحادث، وأن القصر الفخم يتحول إلى قبر ضيق بعد موت صاحب هذا القصر، وأن المنصب يزول ويذهب لغيرك، وأن الرحلة المتغيرة من بلد إلى بلد تتحول إلى رحلة ثابتة حيث المستقر الأخير في القبر.
اظهار أخبار متعلقة
فهذه سنة الله في خلقه وهي الفناء، لذلك يقول لبيد بن ربيعة:
ألا إن كل شيئ ما خلا االله باطل ************* وكل نعيم لا محالة زائل
فالإنسان قد يحزن ويغتم عند المصيبة، وهو لا يتصور في ظل سعادته أنه لن تحدث له أي مصيبة، وأن سعادته دائمة، متناسيا أن الله هو من أضحك وأبكى وهو من أمات وأحيا، وبالتالي لا شيئ مستقر في حياة الإنسان، فحياته متغيرة بين الفرح والحزن وبين المصيبة والابتلاء وبين السعادة والنعم، لذلك حينما تأتيه المصيبة في غفلته، يكون أثرها شديد عليها، لأنه لم يعد لها، ولم يلق لها بالا أو حسابا.
الزهد يهون المصائب
لذلك عرف العارفون بأن الدنيا زائلة، وأن الزهد فيها من أكثر الأشياء التي تهون المصائب كما قال علي بن أبي طالب.
فلا شك أن العاقل يركن إلى دار السلام، ولا تهمُّه دارُ الفناء والنكد والتنغيص، ولكن إذا تمحص الإنسان قول الله تعالى عن دار السلام والمستقر لعرف من هي دار السلام، فدار السلام هي الأاخرة، وما الدنيا إلا دار فناء وتنغيص، قال تعالى ﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25].
فلا يجب أن يزيغ قلب الإنسان عن دار البقاء والخلود في الأخرة، بدار الفناء في الدنيا، فهي بالية، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5]، فمن كان عنده نية طيبة وخالصة لابتغاء وجه الله والدار الآخرة، فهذا هو الذي يهديه الله عزَّ وجلَّ، وهو داخل في قوله: ﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾.
وانظر إلى التصوير الإلهي للدنيا، وفنائها، ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ﴾ [الكهف: 45]، معناه: أن الحياة الدنيا كماءٍ نزَلَ على أرض فأنبتت، فأصبح هشيمًا تذوره الرياح، يَبِسَ وصارت الرياح تطير به، هكذا أيضًا الدنيا.
وقال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ [الحديد: 20].
هذه خمسة أشياء كلُّها ليس بشيء: لعب، ولهوٌ، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، مثالها: ﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ﴾ [الحديد: 20]، ﴿ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ ﴾؛ لأن الكفار هم الذين يتعلَّقون بالدنيا، وتَسبي عقولَهم الدنيا، فهذا نبات نبَتَ مِن الغيث، فصار الكفار يتعجبون منه من حسنه ونضارته: ﴿ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ﴾ [الحديد: 20].
اقرأ أيضا:
ليست كلها ضدك.. أسباب تحول بينك وبين استجابة الدعاءالمبالغة في مواجهة الابتلاء
وكثيرا ما نبتلى في فقدان الصحة والمال والأحباب، ولكن قد تكون المصيبة في واقعها أشد على النفس البشرية، من الفقدان نفسه، حينما نعطيها أكبر من حجمها، بالمبالغة في الحزن فيها، حتى نموت كمدا بها.
فبعض الناس يتصور أنه يعيش خلودا بلا موت، فلا يقبل فكرة المرض، أو فكرة فقدان عزيز عليه، أو حتى فكرة أن هذه الدنيا زائلة بمن عليها، فتصورك لنفسك ولممتلكاتك بأنها خالدة بلا موت، هو تصور خاطئ، فقد كتب الله سبحانه وتعالى على الدنيا الزوال قبل أن يخلقها، و نحن في هذه الحياة الدنيا نتعرض للآلام، والأكدار، والمصائب، والبلايا المتنوعة، فيصيب النفسَ ما يصيبها من العلل، والأدواء، والهموم، والغموم، والأحزان التي لربما تكسرها، وكما نرى ما من أحدٍ في هذه الحياة إلا، ويعاني، فمن الناس من يُبتلى ببدنه، ومنهم من يبتلى بماله، ومنهم من يبتلى بحبيبٍ، وعزيزٍ، وغالٍ عنده.
وهذه الأحزان إذا تكاثرت، وتتابعت على القلب فإنها تضعفه، وتفسده، ولهذا فإنها لا تكون محمودة بحالٍ من الأحوال إلا إذا كان ذلك من الإشفاق من الدار الآخرة، أما الحزن على أمورٍ قد انقضت، وانتهت فإن ذلك يضره، ولا ينفعه.
فالعبودية الحقة تقتضي أن نرضى بما رضي الله به لنا، فلا يكون للعبد اعتراضٌ على الله، وعلى أقدار الله، وإنما يكون راضياً بما رضي له به مولاه.
والعاقل إذا قرأ القرآن وتبصَّر، عرَف قيمة الدنيا، وأنها ليست بشيء، وأنها مزرعة للآخرة، فانظر ماذا زرعتَ فيها لآخرتك؟ إن كنتَ زرَعتَ خيرًا، فأَبشِرْ بالحصاد الذي يرضيك، وإن كان الأمر بالعكس، فقد خسرتَ الدنيا والآخرة.
وهذه الحياة كما وصفها الله بقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4] فالإنسان يكابد في هذه الحياة، يخرج إليها باكياً، ويتجرع فيها الغصص، والأحزان، ويصيبه ما يصيبه من الآلام، والهموم، يشقى بلقمة العيش يجمعها، وإذا طال عمره فإنه يتجرع أحزان أهله، ثم بعد ذلك يخرج من الدنيا مبكياً عليه.