ربما تشعر في أوقات كثيرة أنك أصبحت وحيدًا في الدنيا، بعدما تفرق عنك الأصحاب والأقارب والأخوة، وانتصرت المصالح على العلاقات الإنسانية فيما بيننا، فلا يرن هاتفك إلا حينما يكون لأحدهم طلب ويجد ضالته عندك، ولكن فيما دون ذلك، لن تجد أحدًا حولك، حتى يصيبك بعض الدهشة والأسئلة التي تصل إلى مرحلة الشك في نفسك (هل أنا إنسان سيئ لكي ينصرف عني الناس؟)، وكيف وصل بي الحال لهذه الدرجة من تفرق الناس عني، وقد كنت فيهم مرجوًا؟.

قد تكون الإجابة ربما لانشغال كل شخص في أعماله ومشكلاته وصراع الحياة الذي نمر به جميعا، فلا وقت لأحد كي يسأل عن أحد، وقد تكون الإجابة بأن البعيد عن العين بعيد عن القلب، ومع ظروف العمل من المنزل لأناس كثيرين نتيجة ظروف فيروس كورونا، فقد انعزل كل واحد في بيته حتى أصبحت العزلة هي الأمر الواقع بعد ذلك.

وقد تكون الإجابة هي الأسوأ على قلبك، حينما تجد نفسك مثل الحصان الذي يقتل بعدما كسرت ساقه، وذلك لأنه أصبح عبئا على صاحبه، فلا هو يرجى شفاؤه لأنه من الصعب أن يلتئم عظم الحصان إذا كسر وبالتالي يضطر أن يعيش قعيدا فيحدث له تقرحات، فيموت بعد فترة، ولا هو يجد الوفاء من صاحبه فيبكي عليه ويحفظ جميله بعدما ركب ظهره لسنوات طويلة كان يتباهي ويتخايل فيها به.

كيف تقرأ الواقع؟

بالتأكيد كل واحد منا يتمنى أن يعيش عزيزا بين الناس، له قدره، ولا يشعر بالعزلة أو الوحدة، أو الإهمال، ولا يطأطئ رأسه في بعض المواقف، ولكن ربما يكون االواقع مؤلما، حينما تعرف أن الظرف الذي نعيش به ربما دفع الكثير من الناس أن تتفرق عنا، وبالتالي يجب علينا أن نقرأ هذا الواقع جيدا، ونستفيق من هذه العزلة النفسية، بأن نجدد طاقاتنا مرة أخرى، حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.

فسمة البشر وأخلاقهم معروفة منذ بدء الخلق، وهي القرب من أصحاب المصالح والشهوات، ونحن لم نكن أفضل من الأنبياء الذين مروا بنفس الظروف من العزلة والهجر والوحدة، وانعزال الناس عنهم، ليس إلا أن الناس كانوا يزهدون فيما عند الأنبياء من الموعظة ويرغبون في اللهو واللعب.

اقرأ أيضا:

تقوى الله والخوف منه الوجه الآخر لاستشعار معية الله وأعظم ثماره

الجأ إلى الله واستغن به

لذلك جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيما ورد من حديث سهل بن سعد فقال: "يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واحبب من شئت فإنك مفارقه، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس"؛ رواه الطبراني في الأوسط.

فمن أعظم أسباب العزة في الدنيا الاستغناء عن الناس، فل تحسبن أن صاحبك سيظل معك طوال العمر، فهو لن يدوم طويلا، سواء كان انعزاله عنك لانشغاله بأحواله، أو البحث عن ضالته مع شخص أخر.

لذلك لا يزال الإنسان عزيزا محفوظ القدر إذا كان مستغنيا عن الناس، لا يحتاج إليهم، ومتى ما سأل الناس لنفسه وأكثر من مسألتهم وطلب إعانتهم - هان عليهم، وقلَّ قدرُه عندهم.

وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على الاستغناء عن الناس، وعدم طلب الحوائج من الناس، فكان يبايع بعض أصحابه على الاستغناء عن الناس؛ فعن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله. ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا - وأَسَرَّ كلمةً خفية - ولا تسألوا الناس شيئا. فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه؛ رواه مسلم .

لذلك من الحكمة أن نستغن عن الناس في حوائجنا، ولا نذل أنفسنا إلا لله عز وجل، ولا نطلب إلا من الله، ولا نفتقر إلا إلى الله، فما نستطيع القيام به قمنا به بأنفسنا، وما لا نستطيع أن نقوم به إن كان لنا مندوحة في تركه تركناه، وإن كان مما لابد منه طلبنا الإعانة من إخواننا وأقاربنا الذين نتفاءل فيهم المروءة بعد أن نستغني بالله.

 ومن أعظم الاستغناء عن الناس استغناء من قدر عليه رزقه فيستعفف ولا يطلب المال من الناس، فيصبر على الضائقة، ويمتنع عن بعض الكماليات حتى يوسع الله عليه، فمن أنزل حوائجه بالله وصبر وتعفف أعانه الله ويسَّر أمره، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

وقد ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ؛ فَقَالَ: مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ؛ رواه البخاري.

وقد أثنى الله على طائفة من المسلمين لتعففهم وتركهم المسألة بقوله تعالى: ﴿ لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ﴾ (273) سورة البقرة.

 ولكن الاستغناء عن الناس لا يجوز معه أن نرد حب المحبين ونتودد إلى الناس ونبرهم ونقسط إليهم بالحب، بل ونقبل هداياهم تقرب إلى الله بهم، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل الهدية فلا يقع في نفس المهدي شيء بسبب رد الهدية وكان يكافئ المهدي فلا يشعر بأن له منة وفضلا، فشرع النبي صلى الله عليه وسلم لنا مكافأة من أحسن إلينا ليبقى الواحد منا عزيزا لايشعر بالدون أمام من أحسن إليه والله أعلم فعن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تعلموا أنَّكم قد كافأتموه" رواه أبو داود.

كما يجب أن نفرق بين أمرين الأول سؤال الناس وطلب مساعدتهم بمال أو بغيره فهذا مما ينبغي الترفع عنه وطلب الناس قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون مباحا.

والثاني مساعدة المحتاج وتفريج المكروب سواء ابتدأناه نحن القادرين من غير طلبه أو بعد طلبه فهذا هو الأصل في االإسلام بأن نكون عونا للناس، فمن كان في عون أخيه كان الله في عونه، وما أكثر النصوص القرآنية التي حثت على الإحسان والبذل ومساعدة الناس.