ما يميز الإنسان الناجح والمتفوق عن غيره هو علو همته، التي تمثل بالنسبة له القوة الدافعة من أجل النجاح وتحقيق الذات، فالهمة هي الباعث على الفعل، وقد عرفها بعضهم بأنها استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، لذا فإن أصحاب الهمم العالية هم دائمًا وأبدًا ما يحققون أهدافهم التي يسعون من أجلها، لأنهم يتميزون بالدأب والإرادة والإصرار على بلوغها.
فهذا طالب يبغى التفوق، لذا فهو يسلك الطريق إلى ذلك بجد وإصرار واجتهاد من أجل تحقيق هدفه، لا يستصعب شيئًا مهما عظم، ولا يستحقر شيئًا مهما كان، فهو يأخذ الأمور في كل الأحوال بمنتهى الجدية للوصول إلى حلمه، لا يتوقف عند المذاكرة من أجل اجتياز الامتحان وحسب، بل يبرهن لنفسه قبل غيره على تميزه وتفوقه العلمي، ويوظف نبوغه في تحقيق الأهداف الكبرى.
وهذا شاب في مقتبل حياته العملية يرسم لنفسه هدفًا يريد الوصول إليه، لذا فهو لا يتوانى عن بذل الجهد والتعب من أجله، مهما كانت الصعوبات التي يواجهها في طريقه، فإنه لا يؤمن أبدًا بشيء اسمه الفشل، ولا يمتلك "شماعة" يضع عليها أخطاءه، حتى إذا تعثر، فإنه ينهض ليمضي نحو هدفه بمنتهى القوة، ذلك هو علو الهمة الذي يجعله لا يستمع إلى هؤلاء الذين يريدون تكبيله، ولا يتوقف أمام من يحاولون تعجيزه، لديه ثقة كبيرة في نفسه تجعله يؤمن بأن ما يسعى إليه سيدركه بالعمل وبالتوفيق من الله.
يقول عمر رضي الله عنه: "لا تصغرن همتك فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته"، يريد أن يقول إن الإنسان إذا لم يمتلك الهمة في الحياة فإنه لا يساوي شيئًا، ولن ينجح فيها، لأنه يفتقد إلى العامل الأهم، والذي بدونه لن يبلغ حلمه، ولن يحقق ذاته.
ويعرف الإمام بن القيم علو الهمة بقوله: "علو الهمة ألا تقف -أي النفس- دون الله وألا تتعوض عنه بشيء سواه ولا ترضى بغيره بدلاً منه ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية، فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات".
ومن كبُر هدفه ازدادت همته علوًا، فإن علو الهمة من الإيمان، لذلك أصحاب الهمة العالية تجدهم أكثر التزامًا من غيرهم، وأكثر تطلعًا لإرضاء الله في كل أحوالهم، يراقبون الله في كل مواقفهم، لا يعصونه من أجل غاية، ولا يعبدونه رياءً وسمعة، رضاء الله بغيتهم.
لا يصاحبون إلا من كانوا مثلهم من ذوي الهمم العالية الذين لا ينشغلون بصغائر الأمور، ولا يعملون إلا من أجل الأهداف الكبرى، وهم أكثر الناس حبًا للخير، يحبون للناس ما يحبونه لأنفسهم، يتطلعون إلى النجاح بجهدهم، لا على أكتاف غيرهم، لذلك فإن الله أوصانا أن نلزم هؤلاء وأن نختارهم لنا أصدقاء "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ".
وعن أبي كبشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه ما نقص مال من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها، وأحدثكم حديثًا فاحفظوه قال: إنما الدنيا لأربع نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه ويعلم لله فيه حقًا فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعلمت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يعلم لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا فهو يقول لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء".
وإذا كان الطائر يطير بجناحيه وترفعه إلى السماء، فإن الإنسان يملك ما هو أهم من الجناحين يملك الهمة التي تجعله يطير، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، فعلو الهمة، هو عنوان أصحاب الإرادة، الذين لا يمنعهم مانع ولا تقهرهم الصعاب عن مبتغاهم، وقوة الإرادة تحتاج إلى هدف كبير، وإلى علم غزير، لذلك قالوا: إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم.
والأهداف الكبرى هي التي تتجاوز فكرة الأهداف الشخصية التي يسعى الإنسان لتحقيقها لنفسه، فهي أكبر من أن أن يتم اختزالها في ذلك، هي التي يسعى من خلالها إلى خدمة أمته، ووطنه من خلالها، هو الذي يدرك في قرارة نفسه، أنه يمكن أن يقدم الحلول الناجعة لأزماتها ومشاكلها، وينفذ المشروعات الكبرى التي ترتقي بها، فذوو الهمم العالية هم من يحملون هموم أمتهم في قلوبهم، وينشغل تفكيرهم بحالها، يسعون لنهضتها، ويعملون على الارتقاء بها بين مصاف الأمم.
وقد أشار الله تعالى في القرآن إلى ذوي الهمم العالية في أكثر من موضع، وأثنى عليهم، فأسمى الأنبياء الذين كافحوا من أجل تبليغ رسالات ربهم وتعرضوا للأذى الشديد في سبيل ذلك بــ "أولي العزم"، وحث النبي على الاقتداء بهم "فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ"، ومنها أنه عبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة، والقوة في دين الله، "فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ"، "يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ"، "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا". وقد أمر المؤمنين بالهمة العالية، والتنافس في الخيرات "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ".
أصحاب الهمم العالية هم من يصدق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تجدون الناس كإبل مائة، لا يجد الرجل فيها راحلة"، لأنهم قليلون في العدد، هم الذين قصدهم النبي أيضًا في قوله: "إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها"، لأنهم يعلمون إنهم وإن لم يجنوا ثمار زرعهم في الدنيا، فإنهم سيحصدون في الآخرة، وقد وصفهم بأنهم من ينشغلون بكبائر الأمور لا بصغائرها، فقال: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها".
اقرأ أيضا:
بشريات كثيرة لمن مات له طفل صغير.. تعرف عليها