المبادرة بالتوبة إلى الله عز وجل واجبة في كل وقت وحين لا يجوزُ تأخيرُها ولا التسويفُ بها؛ لأنَّ الله أمَرَ بها ورسولُه، وأوَامِرُ الله ورسولِهِ كلُّها على الفورِ والمبادرةِ لأنَّ العبدَ لا يدري ماذا يحصلُ له بالتأخيرِ، فلعلَّهُ أن يفاجئه الموتُ فلا يستطيعُ التوبةَ، ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ قَسْوةَ القلب وبُعْدَه عن الله عزَّ وجلَّ وضعفَ إيمانه، فإنَّ الإِيمانَ يزيْد بالطاعاتِ وينقصُ بالعصيانِ،
ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ إلْفَهَا والتَّشبُّثَ بها، فإنَّ النفسَ إذا اعتادتْ على شيء صَعُبَ عليها فراقه، وحينئذ يعسرُ عليه التخلصُ من معصيتِه، ويفتحُ عليه الشيطانُ بابَ معاصٍ أخرى أكبرَ وأعظمَ مما كانَ عليه؛ ولِذَلِكَ قال أهلُ العلم وأربابُ السلوكِ: إن المعاصيَ بَرِيدُ الكفر ينتقلُ الإِنسانُ فيها مرحلةً بعد أخرى حتى يزيغَ عن دينِه كلِّه، نسأل الله العافيةَ والسلامةَ.
التوبة دعوة ربانية وسنة نبوية
وقد دعانا المولى عز وجل إلى
التوبة في العديد من آيات القرآن الكريم ، فقال - تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (الزمر: 54).، وقال - جلّت قدرته - محرضًا لهم على التوبة: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (المائدة: 74).
حتى أنه عز وجل قال في حق أصحاب الأخدود الذين حفروا الحُفَر لتعذيب المؤمنين وتحريقهم بالنار: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (البروج: 10)، ويعلق الإمام الحسن البصري رحمه الله على ذلك فيقول: (انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة).
بل إنه - عز وجل - حذّر من القنوط من رحمته فقال: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53)،قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (من أيّس عبادَ الله من التوبة بعد هذا؛ فقد جحد كتاب الله - عز وجل -).
كما كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكثِر من التّوبةِ والاستغفار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما رأيتُ أكثرَ استغفارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم) (رواه أحمد)، يقول صلواتُ ربي وسلامه عليه: " والله إني لأستغفِر الله وأتوب إليه في اليومِ أكثرَ من سبعين مرة " [أخرجه البخاريّ]، وقال عليه الصلاة والسلام: " يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليومِ مائة مرّةٍ " [أخرجه مسلم].
التوبة خجل وندم وصفحة بيضاء
ويقول الداعية الشيخ ناصر بن سليمان العمر واصفًا التوبة: التّوبةُ خضوعٌ وانكسَار، وتذلُّل و
استغفارٌ، واستِقالَة واعتِذار، وابتِعاد عن دواعِي المعصيةِ، ونوازِع الشرِّ، ومجالس الفِتن، وسُبُل الفساد، وأصحابِ السّوء، وقرَناء الهوى!
التوبةُ صفحةٌ بيضاء، وطهر ونقاء، وخشيَة وصفاء، وإشفاق وبكاء، وتضرُّع ونداء، وسؤالٌ ودعاء، وخوفٌ وحياء!
التوبة خجَل ووَجل، وعودة ورجوع، وانكسار وخضوع، وندم ونزوع، وإنابةٌ وتدارك، وخوف من المهالك!
التوبة يا عباد الله نجاةٌ من كلّ غمّ، ووقاية من كلّ همّ، وظفَرٌ بكلِّ مطلوب، وسلامةٌ من كلّ مرهوب، بابُها مفتوح، وخيرُها ممنوح، ما لم تغرغِر الروح، قال صلى الله عليه وسلم قال اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ" [أخرجه مسلم]!.
توبة قبل رمضان أولى
إذا كانت التوبة مطلوبة ومندوبة في كل وقت وحين، فإن الإقبال عليها قبل شهر
رمضان استعدادًا له أولى وأفضل
ومن لم يندم في شهر رمضان فمتى سيئوب؟ ها هو شهر رمضان، قد غلقت فيه أبواب النيران، وفتحت فيه أبواب الجنان، وصفدت فيه مردة الجان، وكُبِت فيه الشيطان، ها هو باب التوبة قد فتح، فليدخل فيه التائبون، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}، رمضان! شهر تغسل فيه الحوبات، وتنبذ فيه الخطيئات، فلا يخرجن هذا الشهر إلا وقد تبدلت الطباع، وتغيرت الأوضاع، وظهر أثر رمضان على الظاهر والباطن، هكذا نستلهم منه العبر، ونجني الدرر، من شهر البكاء والعبرات، والندم على ما فات، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، يا عالم الخفيات، يا مجيب الدعوات.
3 أسباب للتوبة مع قدوم رمضان
يستحق شهر رمضان والقادم إلينا بعد أيام أن نصفه بأنه شهر التوبة والغفران لثلاثة أسباب :
أولاً – لأن شهر رمضان بطبيعته وبدلالة النصوص الشرعية يؤدي عند الالتزام بأحكامه والقيام بواجباته إلى القضاء على الذنوب وآثارها في النفس.
ثانياً – لأن معركة المسلم في هذا الشهر المبارك تكون في مواجهة عدوها الأول : النفس منفردة عن الشياطين التي تصفد في هذا الشهر الكريم.
ثالثاً – لأن الانسان فيه يجد على الخير أعواناً.
فلأن رمضان محرقة للذنوب وآثارها : ذاك من المعاني الذي سمي شهر الصيام بشهر رمضان أي أنه شهر ترتمض فيه الذنوب أي تحترق قال القرطبي: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة).
ورمضان من أعظم مواسم التوبة والمغفرة وتكفير السيئات، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
لذلك قال سبحانه: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون }.
التوبة أول منازل السائرين
ويقول ابن القيم رحمه الله عن التوبة :(وهي أول منازل السائرين إلى ربهم وأوسطها وآخرها) وهي ليست منزلة العصاة الشاردين، بل هي منزلة الأنبياء المصطفين عليهم السلام ، قال تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى، ثم اجتنباه ربه فتاب عليه وهدى).
قال الإمام الرازي رحمه الله : وأعلم أن الأنبياء عليهم السلام طلبوا المغفرة كدعاء آدم ونوحٍ وهودٍ وابراهيم ويوسف وموسى وداوود وسليمان وعيسى عليهم السلام.
وختاماً للحبيب صلوات الله عليه قال الله له في القرآن: (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) سورة محمد.
أما الأمة فخاطبها الحق سبحانه : (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم) " الحشر ".
شروط التوبة
وللتوبة شروط حتى تكون مقبولة عند الله عز وجل وتحقق الأثر المطلوب في نفس العبد وسلوكه وعلاقته بربه عز وجل وهذه الشروط هي:
1- أن تكون خالصة لله تعالى.
2- أن تكون في زمن الإمكان.
3- الإقلاع عن الذنب فلا يصح أن يدعي العبد التوبة وهو مقيم على المعصية.
4- الندم على ما كان منه وهو ركن التوبة الأعظم قال الحبيب (الندم توبة)
5- العزم على عدم العودة.
6- رد الحقوق إلى أصحابها والتحلل منهم.
فحري ونحن على ابواب هذا الشهر الكريم أن نتخفف من الأوزار ونقلع عن المعاصي والموبقات ونتوب إلى الله توبة صادقة، وأن نجعل من رمضان موسماً لتقويم أعمالنا واصلاح مسيرتنا ومحاسبة نفوسنا ، فإن وجدنا خيراً حمدنا الله عز وجل وازددنا منه، وإن وجدنا غير ذلك تبنا إلى الله واستغفرناه وأكثرنا من الصالحات.
خطوات للتوبة قبل رمضان
أما كيف يتوب العبد إلى الله تعالى قبل رمضان ليلقى رمضان بقلبٍ طاهر نقي وفؤادٍ سليم تقي، فعليه أن يلتزم بهذه الخطوات :
1- التوبة الصادقة النصوح بشروطها الستة التي وردت في بداية هذه العجالة الموجزة.
2- السعي إلى طلب العلم والبحث عن الراسخين فيه ليحسن سلوك العبد إلى الله رب العالمين، فإذا عرف الانسان ربه أحبه، وإذا أحبه استقام على منهجه وترك الشهوات والآثام ابتغاء وجهه عندئذ يجد حلاوة الإيمان ولذة الطاعة.
3- التعبد بالعبادات المشروعة فالعبادات ماحيات للذنوب وأكدارها. والعبادات أشبه بتمارين رياضية متكررة لتعويد المرء أن يحيا حياة نظيفة طاهرة عفيفة فعلى قدر أخذ الإنسان نفسه بالمجاهدة وتعهده لها بالعبادات ترقى أحواله وترهف مشاعره وتسمو به إلى عالم الطهر والكمال، فالمجاهدة أساس المشاهدة.
قال ابن القيم من تذوق حال الوصال هانت عليه مرارة المجاهدة.
4- تلاوة القرآن الكريم ومدارسته إذ أننا قادمون على شهر القرآن وشهر رمضان هو مولد دستور السماء الذي ختم الله به الشرائع وأتم به مكارم الأخلاق. قال الحبيب: (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) قال عقبة بن عامر ( لا يعذب الله قلباً وعى القرآن).
5- ذكر الله واستغفاره : روت السيدة عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (شهر رمضان شهر الله، وشهر شعبان شهري ، شعبان المطهر، ورمضان المكفر) .
6- الدعاء : قال ابن رجب رحمه الله: (وإن أعظم نفحات الله تعالى مصادفة دعوة الإجابة يسأل العبد فيها الجنة والنجاة من النار فيجاب سؤاله فيفوز بسعادة الأبد ، قال تعالى : (فمن زحزح عن النار وادخل الجنة فقد فاز).
7- الاكثار من الصدقات ضمن الوسع : قال صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم تكشف عنه كربة أو تقضي عنه ديناً أو تطرد عنه جوعاً) والمؤمن الفطن الحريص على أسباب المغفرة والسعادة يلاحظ الأوقات الفاضلة والأزمان المباركة فيعمل فيها من الخير والبر أكثر مما يعمل في غيرها.
8- حُسن الظن بالله رب العالمين : قال الله تعالى: ( فما ظنكم برب العالمين)
قال ابن مسعود رضي الله عنه (اللهم إنا نظن بك عفواً وغفراناً وانعاماً وإحساناً.) قال الحسن البصري : (يستحيل أن تحسن به الظن ولا يحسن لك المن)...
9- قيام الليل : على قدر الوسع والطاقة
10- املاء الأوقات بما ينفع فقد قيل: (نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر) ولو شغل المسلم بما طولب به من جهادٍ دائم في الحياة وما كلف به من عبادات لما وجد متسعاً من الوقت للتبطل والتخفف ولانجلت عنه غموم ولزالت من حياته هموم ولانحلت عقد كثيرة يعاني منها من تلقاء نفسها في ميدان العمل الصالح والسعي لخيري الدنيا والآخرة.
11- الابتعاد عن مجالس اللهو والاختلاط وهدر الأوقات.
12- استعمال الوسائل المتاحة اليوم فيما ينفع الناس و يمكث في الأرض والبعد عن كل ما يبعد المؤمن عن جادة الهداية والفضيلة.
13- حضور مجالس الذكر والصفاء لتصفية الروح وتنقية الجوارح حيث كان علماؤنا يعقدون الأيام الأخيرة من شعبان في خلوات ربانية ليستقبلوا رمضان وهم على أعلى سوية من الطهر والصفاء والترقي والنقاء.
14- الابتعاد عن الشبهات الفكرية والعقدية والسلوكية وتجنب المراء فيما لا يأتي بفائدة.
15- زيادة عرى التواصل والمحبة والمودة في الله تعالى: (أين المتحابون في جلالي اليوم أظلهم تحت ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)..
16- تجديد الهمة في السير إلى الله تعالى بروح جديدة وهمةٍ أكيدة وعدم الخلود إلى الدعةِ والراحة فمواسم الخيرات تحتاج إلى علو الهمات.
اقرأ أيضا:
الذكر يريح القلب ويبعث الطمأنينة .. تعالوا نذكر الله بهذه الطريقةوإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام، وبعد هذا كله يلتجئ العبد إلى خالقهِ ومولاه ويعود إليه تائباً مستغفراً نادماً مقبلاً إليه بالكلية.فمن عظيم فضل الله تعالى أن جعل باب التوبة مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها...
فَكَمْ هيَ من سعادة وكم هي من فرحةٍ يفرح القلب بها ويسعد حين يرجع إلى ربه نادماً ملتحقاً بركب الصالحين .
اقرأ أيضا:
كيف تدير مشكلة طرفها امرأة.. هكذا كان يفعل النبي؟! اقرأ أيضا:
كيف تزجر النفس عن المعاصي؟