عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته، فمرّ بجدي أسك ميت فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم ) ، فقالوا: "ما نحب أنه لنا بشىء، وما نصنع به؟" قال: ( أتحبون أنه لكم ) ، قالوا: "والله لو كان حيا كان عيبا فيه لأنه أسكّ فكيف وهو ميت؟" فقال: ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) رواه مسلم .
تضيق الدنيا في وجوهنا وتغلق أبوابها في ظل قسوة الحياة والضغوط المعيشية، إلاأن البعض يعطيها أكثر مما تستحق، ولا ينظر لها كما ينبغي أن يكون، فيبكي عليها، ويهرول وراءها، ولا يطوله منها إلا ما كتبه الله له.
أروع مثال
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة التصويرية لصحابته وللمسلمين أجمعين، لبيان حال الدنيا وحقيقتها، رغم افتتان الناس بها.
رجلٌ يقف وسط جموع الناس يسوّق السلعة من خلال ذكر خصائصها وميّزاتها، وسلعةٌ بين يديه تنتظر مشترياً لها، وتجّار يحيطون به يتبارون في الحصول على تلك السلعة من خلال المزايدة في سعرها، ليستقرّ الأمر أخيراً على صاحب الرّقم الأعلى.
إلا أن الاختلاف هنا يبدأ بالماثل بين يدي السلعة المعروضة، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، يمرّ بالجموع الذين يقفون من حوله، وهم صحابته رضوان الله عليهم، وينتهي بالسلعة التي كانت عبارة عن ماعز ميّت ناقص الخلقة، لا يُرتجى نفعه ولا يُنتظر خيره، في مشهدٍ تلفّه الدهشة وتكتنفه الحيرة.
فيشرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم حينما دخل السوق كعادته، ليقضي الوقت في مقابلة الناس ومخالطتهم، والوقوف على أحوالهم المختلفة، وتصحيح معاملاتهم وإرشادهم، وضبط سلوكهم التجاري، وحوله أصحابه، على قارعة الطريق "جدْياً" ميتاً ، نتن الرائحة، معيباً في أذنيه ، فتهيّأ الصحابة رضي الله عنهم لمجاوزة هذه الجيفة، لكنّهم فوجئوا بوقوف النبي عليه الصلاة والسلام أمامها.
وسرعان ما تساءل الصحابة عن السرّ في الوقوف أمام هذا الجسد الخاوي من الروح، والذي تشمئزّ النفوس من منظره والأنوف من رائحته، ولم يَطُل تساؤلهم كثيراً، فقد رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بأذن هذا الجَدْي ثم يقول: ( أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ ) .
ونظر الصحابة رضوان الله عليهم إلى بعضهم ثم قالوا : "ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟"، ويكرّر النبي صلى الله عليه وسلم عرضه الغريب بألفاظ اختلفت قليلاً : ( أتحبون أنه لكم؟ ) ، فذكروا له من عيوب هذا الجدي ما لو رأوه حيّاً لزهدوا فيه، فكيف وهو ميت؟!.
اقرأ أيضا:
الإيمان قول وعمل واعتقاد.. وهذا هو الدليلفوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم
وهنا يكشف النبي صلى الله عليه وسلّم عن الغموض في لفتةٍ تربويّة عظيمة، ليضرب أروع الأمثلة تجسّد المعاني، وتعمّق في النفس معاني الزهد والتقليل من شأن الدنيا : ( فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ) .
يبيّن المثال النبوي العظيم مدى حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحذير أصحابه من خطر الدنيا والافتتان بها، ويُغذّي عقول الناس أن الحياة الصحيحة المستحقّة لألوان البذل والتضحيّة إنما هي وراء هذه الحياة لا فيها، وأما ما كان قبل ذلك فهو غرور ووهم كما وصفها الله تعالى في محكم كتابه :{ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } (الحديد:20).
ودل المثال على تنوّع أساليب النبي صلى الله عليه وسلّم في تصوير حقيقة الدنيا والتحذير من زخرفها، فتارةً نراه يطرق حال الفقراء والأغنياء في عرصات القيامة وما بعدها.
فيمثّل النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا لأصحابه بالأمثلة المعنويّة والحسّيّة التي ترسّخ في نفوسهم حقارة الدنيا ودنوّها، وأنّها لا تساوي شيئا عند الله تعالى ، ومن قبيل المعنوي: تشبيه النبي عليه الصلاة والسلام للدنيا بالزهرة التي سرعان ما تذبل، وبالأرض اليانعة التي لا تلبث أن تفقد جمالها وألوانها، ومن جملة الشواهد على ذلك قوله تعالى : { زهرة الحياة الدنيا } (طه:131)، وقوله تعالى : {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (الكهف:45)، وما صحّ عن النبي عليه الصلاة والسلام من قوله : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ) رواه الترمذي ، ومن التمثيل الحسّي لحقيقة الدنيا الموقف الذي بين يدينا.