يؤكد الدكتور عادل هندي مدرس الثقافة بكلية الدعوة جامعة الأزهر أن البحث العلمي قد اعتراه في الفترة الأخيرة الكثير من المشكلات والإخفاقات، على الرغم من التطوّر التكنولوجي والعلمي في واقعنا المعاصر. كما أنّ عالم الانترنت بات وسيلة للبعض في الحصول على قيمة علمية سريعة.. ومع كل هذا التطور توقفت بعض العقول عن الابتكار، وباتت بعض المواقع الاليكترونية (تفكر وتكتب وتنسّق وتعالج وتصحح وتطبع وتنشر....) لنا.
ويضيف: تبقى المشكلة الأكبر والأشدّ عند كثير من الباحثين اليوم هي: "اختيار موضوع بحثيّ" أو "ابتكار فكرة بحثية جديدة" أو "إبداع فكرة نافعة" يعمل عليها الباحث وتتناسب مع مؤهلاته العقلية ومهاراته الفكرية.
وربما كانت المشكلة لدى بعض الأساتذة عند اختيار الباحثين للموضوعات؛ أنها جديدة على سمعه وعلمه، أو أنّها لا تتناسب مع فكره هو فقط، أو التسويق الزائف بأنّ (الفكرة قُتِلَت بحثًا)... فما هي الفكرة البحثية؟ وكيف نفكر خارج الصندوق؟
وسائل توليد أفكار علمية جديدة:
ويوضح د. "هندي" أن هناك عدة وسائل لتوليد افكار بحثية للباحثين، أهمها:
أولا: مفهوم الفكرة البحثية:
هي تصور مبدئي لموضوع بحث علمي؛ تنمّ عن عملية تفكير منظّمة، تتضمن الأفكار الأولى الأبجدية التي يعتزم الباحث تحقيقها وإجراء محاورها العلمية.
وتعد الفكرة البحثية أول خطوة يخطوها الباحث نحو البحث العلمي الورقي -بعد خوض غمار سنوات التعليم والدراسات العليا- وتكون مبنية على ما يُسَمَّى في العلم بــ (الفجوة المعرفية) = (knowledge gap).
وتعني: الجزء المفقود في الفكرة العلمية، إما أنها منقوصة أو غير كافية، فيأتي دور البحث العلمي لاستكمال ما انتقص، أو تحقيق حدّ الكفاية البحثية والعلمية.. وللعلم: البحث العلمي لا يُغلِق باب الاجتهاد والكتابة في نفس الفكرة مرة أخرى؛ خاصة مع وجود باحث مفكِّر مبدِع، ومع تطورات الواقع المعاصر.
ولذا من أهم سمات الفكرة البحثية المتميزة، ما يأتي:
- قابلة للبحث ومثيرة للاهتمام البحثي.
- توفر المصادر للموضوع المحدّد.
- تربط بين الأصالة والمعاصرة.
- تتفق مع قدرات الباحث وإمكاناته العلمية.
- تفتح آفاق جديدة للتفكير العلمي بين الباحثين والمختصين.
ثانيًا: شحنة علمية خارج الصندوق
أيها الباحث الكريم: نحاول سريعا معًا وضع عناصر محددة في كيفية ابتكار فكرة بحثية جديدة، والتي لا يمكن أن تولَد من غير جهد يُبذَل، كالقبول لكل الأفكار المطروحة أمامك، إطلاق البصر والعقل في التفكير بلا حدود، خارج الصندوق المعتاد، ولذا عليك بالتالي:
- استحضار نيّتك الصالحة في خوض غمار البحث العلمي، واربط ذلك بنفع البشرية وزيادة وعي الجماهير وإحداث إصلاح فكري وسلوكي في المجتمع.
- كن محبًّا للعلم حقًّا، وتعامل معه على أنه رسالة وليس وسيلة لغايات مذمومة، وإلا كان كمثل من استغل منصبه أو شهرته للوصول لشهادة ما، ثم وقع من أعين الناس قبل أن يقع من عين نفسه.
- احذر الخوف من الفشل والنقد والرسائل السلبية.
- اخترق الأفكار الصّلبة ولا تستسلم للقوالب الجامدة من الأفكار.
- الملاحظة والاكتشاف.
- اسأل سؤالا وحاول الإجابة عليه حول الفكرة والموضوع.
- اشحن عقلك بالقراءة الكثيرة، وخصِّص وقتًا للتفكير والعلم.
- أجب على هذه التساؤلات (ماذا أريد؟ من أين أبدأ؟ ما الذي يجب عليّ فعله؟).
- ابحث عن الأفكار التي لها صلة بالواقع لا الخيال وعدم الوضوح؛ فالعالَم الآن لا يتقوقع داخل القديم، فكلما كانت الفكرة مرتبطة بالتراث ومعها المعاصرة والواقعية لكان خيرًا.
ثالثًا: وسائل ابتكار فكرة بحثية جديدة:
- اكتشاف الاهتمامات والميول العلمية والفكرية للباحث؛ بحيث يرى التخصص الدقيق الذي يميل إليه علميًّا ووجدانيًّا، ويمكن بعد تحديد الميول العلمية السعي في الخطوات التالية مباشرة لتوليد أفكار تتجه نحو التخصص والميول.
- قراءة توصيات البحوث العلمية والدراسات السابقة "ماجستير ودكتوراه" في نفس التخصص الدقيق والتخصص العام؛ فقد اهتمّت البحوث العلمية في القطاع العربي والدعوي والشرعي -أخيرا- بوضع مجموعة من الأفكار البحثية في ختام البحث، استنبطها الباحث من خلال عمله البحثي، ويراها تحتاج إلى عميق بحث وتناول حسن.
- النظر في بحوث المؤتمرات المحلية والدولية أو محاور تلك المؤتمرات التي وُضعت لتناول الأساتذة والمختصين.
- مراجعة الخطة البحثية المعتمدة لدى القطاعات العلمية في الجامعات؛ وهي تمثل المحاور التي اتفق عليها صفوة العلماء المختصين؛ حيث تحتاج إلى إبراز واهتمام علمي. وكل قسم علمي فيه نسخة معتمدة يمكنك الرجوع إليها وتناول موضوعاتها المقترحة بالدراسة، وقد وُضعت بالتناسب مع الوحدان العلمية والاتجاهات البحثية لدى المؤسسة العلمية فضلا عن تناسبها مع الاتساق العام للدولة والوطن.
- حضور السيمنارات العلمية والجلسات المتخصصة في مناقشة أحوال الأفراد "معرفة ووجدانا ومهارات" وكذا مناقشة بعض الظواهر المجتمعية "العنف، التنمر، التحرش، السلبية، الأخطاء التربوية... إلى غير ذلك". ولا شك أن معايشة تلك الجلسات تنتج تلاقحا للأفكار ونقلا للخبرات العلمية المختلفة.
- مطالعة المجلات المحكَّمَة في ذات التخصص العلمي، وتجدها في الكليات أو المكتبة المركزية لكل جامعة؛ وستفتح لك بابا من المعارف والأفكار المختلفة التي تروق لك وتتناسب مع تخصصك والاحتياجات البحثية المعاصرة.
- معرفة عناوين واهتمامات الوحدات العلمية المتخصصة داخل الأقسام العلمية؛ فمثلا في أقسام العقيدة تجد وحدات "التوحيد، التصوف، الأديان السماوية والوضعية، الاستشراق والتبشير، التيارات الفكرية......" وفي قطاعات أصول الدين بما تحويه من تفسير وحديث ودعوة، هناك وحدات "التفسير الموضوعي والتحليلي ومناهج المفسرين، الحديث الموضوعي والتحليلي ومصطلحات الحديث والمشكل والمختلف في علم الحديث،..." وهناك في الدعوة والثقافة الإسلامية "وحدة القيم والفكر، والدعوة بتياراتها المختلفة وتواريخها ومنحنياتها الإيجابية والسلبية، وحدات النظم المختلفة، والنقد الإسلامي للتراث الإنساني، وحاضر العالم الإسلامي...." وفي تخصصات الأصول والفقه المختلفة تجد مثل ذلك؛ فهناك الفقه العام والخاص، وهناك القانون العام والخاص، وهناك القواعد الفقهية والمقاصد الشرعية.. إلى غير ذلك... فإنك حين تنظر في عمل واهتمامات تلك الوحدات ستتولد لديك موضوعات في غاية الأهمية.
- حضور المناقشات العلمية لرسائل الماجستير والدكتوراه؛ فمما لا شك فيه أن توجيهات الأستاذ المُناقِش تفيد كافة الباحثين لا الباحث الذي يُناقَش وحده، كما أن من المؤكَّد وجود فوائد ستتحقق لدى الباحثين الحاضرين والمشاركين بالحضور في المناقشات العلمية تلك.
- مطالعة دليل الرسائل الجامعية لدى كليتك أو المكتبة العامة في الجامعة؛ ففيها عناوين وأفكار ومحاور ونتائج وملخصات البحوث والرسائل التي نوقشت في تلك الكلية، ولا شك أن الفكرة تُولِّد فكرة غيرها.. ويمكن إعادة البحث في أفكار سابقة تم مناقشتها ولكن مع الالتزام بإبراز واقعية تلك الموضوعات عصريا.
- النظر في القضايا المجتمعية التي تتحدث عنها التحقيقات الصحفية والأخبار من خلال الجرائد والصحف، والتي تكون نتاجا لأحداث المجتمع وظواهره، ومن المؤكد أن تلك الموضوعات تحتاج لدراسات شرعية متخصصة؛ سواء من الناحية الفقهية أو الحديثية أو التفسيرية أو الدعوية أو التربوية.
- ركّز على الدراسات البينية، وهي تلك الدراسات التي تهتم بالبحوث المشتركة بين تخصصات مختلفة؛ كمثل الدراسات البينية بين الدعوة والإعلام، بين الدعوة والشريعة، بين الدعوة والتربية، بين الدعوة والعلوم التجريبية، بين الدعوة والعلوم الإنسانية.... وهي باب مهم للغاية لمن أراد بحثا علميا راقيا ومفيدا..
- احمل "كشكول أو كراسة أو مفكرة أو دفتر" معك دائما بحيث تسميه "كشكول البحث العلمي"؛ سواء أثناء الدراسات العليا أو ما بعدها، بحيث تُسجّل فيه كل فكرة حتى لو كانت تافهة -مع أني لا أوقن بتفاهة أي فكرة؛ فالباحث الواعي يمكنه أن يصنع من الفسيخ شربات- المهمّ: في مراحل العصف الذهني أو التسجيل للأفكار لا يصح الغربلة والتصفية "اكتب واكتب واكتب ودوّن ودوّن بلا تردد"..
- مطالعة الكتب العلمية العامّة (العنوان، الفكرة، المضمون، المقدمة، الفهرس، المراجع) من حيث علاقتها بالتخصص الدقيق، وما يمكن أن تقدّمه في موضوعاتها من الناحية البحثية؛ حيث تبقى ثقافة الباحث، وتواصله الدائم مع مستجدّات التخصص، وآخر ما صدر من كتب وأبحاث، من أبرز الملهمات للوصول إلى فكرة بحثية جديرة بالدرس.
- يمكنك تحصيل فكرة جديدة من خلال ملاحظتك الشخصية للواقع الدعوي والاجتماعي والتربوي؛ بحيث تجد ظاهرة مّا تحتاج إلى دراسة علمية، فتضع لها العناصر وفقًا لما لاحظتَه.
- العودة لبعض المواقع العلمية المتخصصة، مثل: (بنك المعرفة المصـري، دار المنظومة، موقع مجلة الشريعة - جامعة الكويت، ....). ويمكنك الاستعانة ببعض المواقع الخاصة بتحميل الكتب والمصادر، مثل (المكتبة الوقفية، المصطفى الاليكترونية، ....).
- زيارة المكتبات العامة، والخاصة؛ للاطلاع على خزائنها المعرفية والفكرية وما تتضمّنه من كتب وأبحاث في مجال التخصص؛ فربما يجد الباحث ثغرة في نقطة تحتاج لدراسة ويحدد لها الآلية ويبدأ بالعمل عليها.
- اعتماد أنواع التفكير المختلفة لتوليد أفكار جديدة: مثل (التفكير الجمعي، التفكير الاستنباطي، التفكير الناقد والإبداعي، التفكير التخصصي المختلف عن تخصصك) فعودة الباحث إلى تلك الأنواع وتعدد منافذه توفر له فرصة أكبر في إيجاد أكثر من فكرة. ويأتي ذلك عن طريق المخالطَة والحوار والمناقشة مع المثقفين وأهل الخبرة -كما سبق-.
- أفكار بحثية احذرها: (فكرة كبيرة جدا وتحتاج إلى فريق علمي ووقت زمني طويل، غير ذات أهمية حقيقية، الأفكار التي تفتقد المصادر والمواد العلمية الموثقة والدقيقة، الأفكار غير الأخلاقية، أو التي لا تتناسب مع القيم والمبادئ الثابتة، الأفكار الجدلية التي لا يحسمها البحث العلمي ولن تنتهي....).
- اشترك في مجلة علمية محكّمة سواء محلية أو دولية تهتم بالتخصص الدقيق الذي تودّ التسجيل فيه؛ بحيث تتابع كل جديد من المقالات والإصدارات والبحوث العصـرية. وهذا ما يمكن أن نسميه (استشـراف المستقبل) واهتمامات العالم في الفترات القادمة بالنوازل والابتكار والإبداع.
- وأخيرًا: اعلم أخي الكريم أن اختيار الفكرة البحثية يحتوي عددًا من المراحل، منها:
-مرحلة تحديد المجال والتخصص.
- مرحلة التفكير والتوليد.
- مرحلة الغربلة والاختيار.