لا تنتهي حكايات التائبين والأوابين إلى الله بالعجائب والغرائب، والتي تدل على رحمة الله بخلقه، وأن رحمته وسعت كل شيء، ومن غرائب الحكايات ما رواه الواحدي في كتاب قتلى القرآن.
صاحب السفينة:
كان رجل من أشراف أهل البصرة منحدرا إليها في سفينة ومعه جارية له فشرب يوما وغنته جاريته بعود لها.
وكان معهم في السفينة فقير صالح فقال له يا فتى تحسن مثل هذا؟
قال أحسن ما هو أحسن منه وكان الفقير حسن الصوت فاستفتح وقرأ: " قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ"، [النساء: 77, 78].
فرمى الرجل ما بيده من الشراب في الماء وقال: أشهد أن هذا أحسن مما سمعت فهل غير هذا؟
قال: نعم فتلا عليه: "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا" [الكهف: 29] ، فوقعت في قلبه موقعا ورمى بالشراب في الماء وكسر العود.
ثم قال: يا فتى هل ههنا فرج؟ قال: نعم " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، [الزمر:53] فصاح صيحة عظيمة فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.
اقرأ أيضا:
عابد وعاشقة.. قصة تقشعر لها الأبدانواقعة أخرى:
وروى الإمام ابن أبي الدنيا بإسناد له أن صالحا المري رحمه الله كان يوما في مجلسه يقص على الناس فقرأ عنده قارىء: " وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ" ، [غافر:18] فذكر صالح النار وحال العصاة فيها وصفة سياقهم إليها وبالغ في ذلك وبكى الناس.
فقام فتى كان حاضرا في مجلسه وكان مسرفا على نفسه فقال: أكل هذا في القيامة؟
فقال صالح: نعم وما هو أكبر منه لقد بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلا كهيئة الأنين من المريض المدنف.
فصاح الفتى: " أيا لله واغفلتاه عن نفسي أيام الحياة واأسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه واأسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا"، ثم استقبل القبلة وعاهد الله على توبة نصوح ودعا الله أن يتقبل منه وبكى حتى غشي عله فحمل من المجلس صريعا.
فمكث صالح وأصحابه يعودونه أياما ثم مات فحضره خلق كثير.
فكان صالح يذكره في مجلسه كثيرا ويقول: وبأبي قتيل القرآن وبأبي قتيل الواعظ والأحزان.
فرآه رجل في منامه فقال: ما صنعت؟ قال: عمتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"، [لأعراف: 156].
من آلمته سياط المواعظ فصاح فلا جناح.. ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح.