من أشهر الأمراض النفسية وأكثرها شيوعاً مجموعة منها يطلق عليها الأمراض النفس-جسدية Psychosomatic disorders، وهى الأمراض التى يشكو فيها المريض من أعراض جسمانية، لكن السبب الحقيقي وراءها نفسي وليس عضوياً.
تنتشر هذه الأمراض فى بعض المجتمعات التى يكون فيها التعبير عن الألم النفسي أو المشاعر النفسية الحقيقية غير مقبول، تارة باسم (العيب)، وتارة تحت لافتة (قلة الأدب)، وتارة أخرى تحت وصف (الدلع)، فيضطر الجسم أن يعبر عن الألم النفسي،
لكن بلغته الخاصة.
يلاحظ كثير من الأطباء فى جميع التخصصات تقريباً ظاهرة شهيرة جداً فى العيادات والمستشفيات، وهى أن المريض لا يشفى (رغم صحة التشخيص والعلاج)، أو لا يكف عن الشكوى (رغم أنه تم شفاؤه إكلينيكياً)، أو أنه يوقف الدواء من نفسه بمجرد ظهور بوادر تحسن عليه (رغم تنبيه الطبيب عليه)، أو أنه يشفى فعلاً، لكنه يتنكس مرة أخرى قبل يوم واحد من زيارة الطبيب للاستشارة، والسبب وراء كل ذلك بسيط جداً، وهو أن الاحتياج النفسي الإنساني البسيط الذى عبر عنه الجسم بالمرض (النفس-جسدي)، أو أحياناً مع المرض (الجسدي) لم يشبع، وهو الاحتياج للاهتمام، الاحتياج للرؤية، للسماع، للتقدير.
الزوجة التى ينشغل عنها زوجها وقتاً طويلاً، عقلها الباطن يعلم جيداً أنه من غير المسموح لها أن تعبر عن تذمرها وضيقها من ذلك (وإلا سيستنكر ذلك أهلها وأصدقاؤها ومجتمعها وينصحونها بالصبر والتحمل والتضحية)، فيختار جسدها أن يعبر عن ذلك بمجموعة متفرقة من الآلام، ومشاكل فى الهضم، واضطرابات فى التنفس، وصعوبات عضلية وحسية.. وأحياناً جنسية.
التلميذ الذى لا يرى منه أهله غير درجاته ونتيجته فى الثانوية العامة، وهو لا يستطيع أن يقول لهم بصوت عال: (ارحموني).. (انظروا لي أنا وليس إلى نتيجتي).. (أرجوكم لا تختزلوني فى أرقام).. لكن جسده سيتحدث بدلاً منه، ويصاب مثلاً بصداع ليس له تفسير واضح، أو علاج ناجح.
الفتاة التي تتعرض للتحرش والانتهاك البدني فى مجتمعات توصل للمرأة، أن جسدها خزي وشؤم وعار، يجب عليها أن تخجل منه، وأن وجودها غير مرغوب فيه من الأصل، تخاف أن تعبر عن غضبها وإحباطها ورغبتها أن تأخذ حقها على مرأى ومسمع من الجميع، فيقوم جسمها بهذه المهمة، ويعلن عن عصيانه لها ولهم.
وتمتلئ العيادات بالمرضى، مع المزيد والمزيد من التحاليل، والأشعات، وتتعقد العلاقات، وتختل الزيجات، وتتفسخ العائلات.
فى دراسة أجراها بالدوميرو عام 1999 على المرضى الموجودين فى حجرات الانتظار الطبية بمختلف تخصصاتها فى مستشفيات الرعاية الصحية الأولية، وجد أن نسبة 41.3% إلى 53.5% منهم يعانون من اضطرابات نفسية،
أرقام مذهلة بالفعل.
يعني هذا بكل بساطة أن جسدك أصدق منك، فقد تقول بلسانك أنك مطمئن، لكن قدمك التى تهتز باستمرار تقول، إنك خائف ومتوتر، وقد يقول لسانك (صباح الخير)، فى نفس الوقت الذي يقول فيه وجهك (صباح الشر)، قد تدعي إنك واثق من نفسك، لكن هزة صوتك ورعشة يدك تفضحك، وهنا لك أن تعلم أن سبعة بالمائة فقط مما ترسله للآخرين فى تواصلك معهم يكون عن طريق الكلام، وكل الباقي يصل من خلال الطريقة التى تتحدث بها، ووضع وحركة وتعبيرات جسدك أثناء الكلام.
جسدك عبارة عن أداة تعبيرية لا تكذب أبداً، ليس هذا فقط، بل إنه يقوم بتخزين ذكريات وحركات ووقفات وخلجات منذ صغر سنك وحتى الآن، ففي المرة التى كنت عائداً فيها من اللعب بالشارع، وأوقفتك والدتك فجأة على الباب قائلة "لا تمشي فوق السجادة النظيفة"، قامت قدماك بتخزين الطاقة التي كانت تملأها واحتفظت بها، حتى الآن، وفى المرة التى بدأت فيها الأكل بشكل تلقائي غير محسوب أمام الناس فى إحدى الزيارات العائلية، ونهرك والدك وأوقفك بقسوة، قامت عضلات يدك بتخزين تلك الذكرى حتى الآن، وكذلك حينما بدأت فى اكتشاف جسدك، وأيضاً فى مرات الضرب أو التحرش أو أي أذى بدني آخر، فالجسد له ذاكرة، لا تخطئ ولا تنسى.
وتمر الأيام، وتجري السنون، ويصيبنا "القولون العصبي"، " الصداع ىالمزمن"،
والارتعاش أمام الناس، نجد من تكره جسدها فتفقد شهية الأكل، أو تتقيؤه،
أو تتركه ليزيد وينتفخ.. نجد من يتساقط شعرها بدون سبب طبي واضح.. ومن تثور بشرته عليه، ومن يصاب بحساسية جلدية دون تفسير.. ثم تزحف التجاعيد قبل الأوان.. وتنتشر الآلام فى كل مكان.. حتى يخون الجسد صاحبه، ويهدم نفسه بنفسه فى أحد أمراض (المناعة الذاتية autoimmune diseases)، أو الضغط المفاجئ، أو السكر المزمن، أو.. أو.. أو..
فلتنظر إلى جسدك.. وتحاول فهمه..
فلتحترمه.. وتصدقه..
فلتعامله.. بما يستحق.
د.محمد طه
أستاذ الطب النفسي- جامعة المنيا
*بتصرف يسير