خافت أم نبي الله موسى عليه السلام، على رضيعها من بطش فرعون، فجاءها الحل الإلهي المعجز: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ».. حل يحير العقول.. كيف ترمي أم بطفلها في الماء؟!
لكن لأن الله العزيز الحكيم هو صاحب هذا الحل، والعليم بما قد ينتابها من خوف أو حزن، جاء الحل المجازف بدعوة صريحة وتطمين بالغ ووعد محقق لا محالة بنصر مبين «وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي».. وليس هذا فقط «إِنَّا رَادًّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ».. أي أن ابنك هذا يا أم موسى الذي تخشين عليه من الذبح بسكين الظلم، سينجو، ولن نضمن لك نجاته فقط، بل إننا سنرده إليك سليما من كل أذى. هل طار قلبك فرحا بهذا الوعد عند هذا الحد؟! سيكون أيضًا واحدًا من أعظم البشر الذين حملوا رسالة السماء إلى أهل الأرض.
امتحان رهيب
امتحان رهيب لأم بلا حيلة، لكن مع المحنة هناك دائما المنحة.. مطمئنة إلى وعد الله، قطعت أم موسى خطواتها إلى اليم تريد إلقاء الطفل، وهي تستدفع ما يعتريها من خوف أو حزن بكلام الله الموحى إليها من فوق سبع سموات «وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي».. يا الله إنه ما من موقف يجدر به الحزن والخوف من هذه السيدة كموقفها هذا؟! فكيف لا تخاف أو تحزن؟ العلة هنا تفسرها الحكمة ««إِنَّا رَادًّوهُ إِلَيْكِ».. وليس هذا فقط «وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين».
سيحملك الماء يا صغيري.. ستنجو من فرعون.. ستصير رسولًا من عند الله إلى قومك.. سيردك الرحمن الرحيم إلى دفء صدري مجددًا. بهذه الكلمات دفعت السيدة صغيرها في الماء وانصرفت بينما صدرها يكاد ينفجر من شدة القلق.. إنها بشر على أية حال.
التقط آل فرعون الصغير، وشاءت إرادة الله أن يحتفظوا به «عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا».. وبينما يحدث ذلك.. كاد صبر الأم ينفد.. بتعبير القرآن «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».. كادت السيدة التي تلقت وحي السماء أن تبوح بما يعتصرها من ألم.. أن تصرخ في الناس بمحنتها.. أن تقفز في الماء تتفقد صغيرها.. هنا يعود المدد الإلهي «رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا»، بعدما تحققت النجاة فعلا حين استقر الطفل في أكثر الأماكن أمنا فوق الأرض: قصر فرعون!
اقرأ أيضا:
اعرف أصلك وفصلك من سورة الإنسان.. لماذا خلقك الله وماهو دورك الحقيقي؟العناية الإلهية
لو أخبر أحدهم أم موسى أن صغيرها بات في أحضان امرأة فرعون التي عنيت به كأشد ما تكون العناية ربما لهدأت نفسها.. لكن الوعد الإلهي كان واضحا: "إنا رادوه إليك".. لم يكن الأمر مرتبطا فقط بالحفظ أو كفالة النجاة من الخطر الذي يتهدده.. بل سننجيه ثم نعيده إلى صدرك.
سيجوع الطفل لكننا - على حاجته الشديد للبن الدافئ طعامه الوحيد - إلا أننا سنحرّم عليه المراضع من دونك.. حيلة إلهية من ذلك النوع الذي ينتصر به الله لمن لا حيلة لهم.. الذين يظنون عندما تضيق بهم الدنيا أنه لا نجاة بينما يُسيّر الله أسباب الكون لنصرتهم.
تنتهي دراما موسى رضيعًا بعودته إلى أمه.. وهنا نستمع بإنصات إلى ذلك التعليق الإلهي الواضح الشارح لسنن الله في كونه مع خلقه من الناس: «فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ» ثم درس إيماني للجميع : «وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ».. وعدناك بالحفظ فكان، وبرده إليك ففعلنا، حتى يستقر في يقينك أن وعودنا محققة لا محالة «ولكن أكثرهم لا يعلمون».