في بعض الأوقات ودون أن نشعر، نضع حب الله في كفة واحدة مع حب الناس، فقد نخجل من أن نقوم إلى صلاة العشاء لمجرد أن نشعر بالحرج من القيام وترك صديقنا الذي نستضيفه على المقهى بمفرده لبضع دقائق من أجل أداء فرض الله، بالرغم أنه من الأسهل أن نشد على أيدي هذا الصديق الذي ربما لا يصلي ونشجعه على اداء الفرض جماعة، أو حال أصر على عدم القيام لأي مبرر نقوم نحن للصلاة، وألا نضع حب الله وتكاليفه في كفة واحد مع حب هذا الصديق.
الحب في الله وليس على حساب الله
فقد ورد عن الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يجلس مع أصحابه يتحدث في قضاياهم، ويؤذن للصلاة يهرع إليها ويقوم مفزوعا كأنه لم يعرفهم أو يعرفونه، وقد جاء ذلك في حديث السيدة عائشة :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه ".
وهناك بعض الناس الذين يجلسون في بعض المجالس التي يكثر فيها اللهو والخوض في الأعراض والحديث عن النساء، ولا يملك الشجاعة أن يقول لإخوانهم بحرمة ما يخوضون فيه، أو على الأقل يهم بتركهم لطالما أن مجلسهم احتمل المنكر، إلا أنه قد يستمر معهم ويخوض في أحاديثهم خجلا من أن يتركهم وينصرف.
فالحب في الله غير الحب على الله، بمعنى أن الإنسان يجب أن يحب أخيه فيما يرضي الله، وأن يجعل هذا الحب رضاءا لله، فإذا كان هذا الحب على حساب الحلال والحرام، وفيه ندية مع شرائع الله، فقد قدم الإنسان حب الغير على حب الله.
يقول الله تعالى في سورة البقرة: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)".
وقال تعالى :﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾[الأنعام : الآية 162].
فالمؤمن مُحِبٌّ لله بِوَقْتِهِ وماله وجُهْدِه وعِلْمُه وخِبراتُه وطاقاتُه ، وانظر لقَضِيَّة سيِّدنا عثمان لما جَهَّز جَيْشُ العُسْرة مئة ناقة مُحَمَّلة ، ومئة ناقة أخرى ومئة ناقة ثالثة ؛ جَيْشٌ بِأكْمَلِه ، فقال عليه الصلاة والسلام :" اللهمَّ إني أمْسَيْتُ راضِياً عن عثمان فارْضَ عنه ، وما ضَرَّ عُثْمان ما فعلهُ بعد اليوم ، لماذا ؟! لِوَجْهِ الله .
فالحياة الحقيقية هي حياة معرفة بالله ، أو حياة القلب وطاعته والإقبال عليه وأن تكون في ظِلِّه، فلا شُعور أسعد للمرْء من أنْ يرى نفْسه في طاعة الله ، وأتَحَدى من أن يكون هناك شُعور أسْعد من أنْ يسعد الإنسان بطاعة الله ، إذا الإنسان اقْتَرف معْصِيَة يشْعر بِكآبة ووَحْشة وضيقٍ ويُعْصر قلبه ، أما إذا كان في طاعة الله فإنَّهُ يشعر وكأنه في ظِلِّ الله .
والحُبّ من علامة الإيمان ، ومن الخطأ أن تعرف قدْر الرِّبْح في مُعامَلَتِك مع الله ثمَّ تعاملُ غيره ، الرِّبْحُ معه كبير جداً ، قد تؤثر الآخرة على الدنيا فَيُعْطيك الدنيا والآخرة ، والعجيب مع الله تعالى أنَّك تؤاثره على شيء فَيُعْطيك رِضاه وتجَلِّيه ورحْمته وهذا الشيء أيضاً ، من أحَبَّنا أحْببْناه ومن اكْتفى بنا عما لنا كنا له وما لنا .
اقرأ أيضا:
الإيمان قول وعمل واعتقاد.. وهذا هو الدليلالحب عبادة
ما أصعب أنْ تذوق ألَمَ الوَحْشة في معْصية الله ، هذا الكلام مُوَجَّه للذي يتعامل مع الله ، وله صِلَة بالله ، هذه الصِّلة تزْداد أو تنْقص وتشْتدّ أو تضْعُف فالذي على صِلَة بالله يفْهم هذا الكلام ، لا يوجد إنسان يؤثر شيئاً من الدنيا إلا ويشْعُر بِأَلَمِ الوَحْشة ، فقد تجد إنساناً مُقيماً في كوخ ، وبِدَخْلٍ محْدود وهو أسْعد الناس لأنَّهُ موصول بالله ، قد يحْجُبُ عنك الدنيا ويتجَلى على قلْبك فإذا بك أسعدهم ، وقد يُعْطيك الدنيا كُلَّها ويحْجُبُ عنك رحْمته فأنت أشْقى الناس فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يسْأل رحمته تعالى ويقول : فلا تكِلني إلى نفسي طرْفة عين .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم *
من فَقَدَ أُنْسَهُ بين الناس ، ووَجَدَهُ في الوحْدة فَهُوَ صادِقٌ فإذا كان يصلي وَحْده بكى، وإذا قرأ القرآن تأثَّر تأثُّراً شديداً ، وإذا ذكر الله يتألَّق أما مع الناس فله حال آخر .
وأشْرف الأحْوال ألّا تخْتار لِنفسك حالةً سِوى ما يخْتارُه لك الله عز وجل ، هناك من إذا مات ابنه نقم على الله ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ : دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِي اللَّه عَنْه وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ رَوَاهُ مُوسَى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ المُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ*
هذا هو الموقف النبوي الشريف فأشْرف الأحْوال ألّا تخْتار لِنفسك حالةً سِوى ما يخْتارُه لك الله عز وجل فَكُن مع مُرادِهِ منك ، ولا تكن مع مُرادك منه ، (فإذا سَلَّمْتَ لي فيما أُريد كَفَيْتُكَ ما تريد، وإنْ لم تُسَلّم لي فيما أريد أتْعَبْتُك فيما تُريد ثمَّ لا يكون إلا ما أريد).
وأوَّلُ سبب للمعصية أن تسيء الظنّ بِرَبِّك ، وتعتقد أنَّك إنْ أطَعْتَهُ وآثرتهُ على غيره خَسِرْتَ والأمر الثاني أنْ تكون عالِماً بذلك ولكن تغْلب شَهْوَتَك صَبْرك ، وهواك عقْلك ، فالأوَّل من ضَعْف عِلْمه والثاني من ضعْف صَبره ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عَوَّضَهُ الله خيراً منه في دينه ودُنْياه ، أي أنّ كُلّ إنسان صَبَر عن الحرام منَحَهُ الله الحلال ، وقال بعض العلماء في نهاية المطاف : إذا اجْتَمَع قلبُك على الله ، وقَوِيَ رجاؤُك فيه فلا يكادُ يُرَدُّ دُعاؤُك ، ومن كرامة المؤمن على الله أن يكون مُسْتجاب الدَّعْوة .