هذا الحوار هو حوار حقيقي مر به كاتب هذه السطور، ويمر به الكثير من سيقرؤونه لأنه ربما يعبر عن واقع الكثير من الناس في يومنا هذا، بعدما اشتدت علينا الدنيا وزخرفها، واتزينت بحرامها قبل حلالها، فجذبت قلوبنا وأسرتها بين حناياها الباطلة، حتى سرنا عبيدًا لها، فاغتر كل واحد منا بما في هذه الدنيا الفانية، فمنا من يلح في الطلب عليها، ومنا من يبكي حسرة على الفوات منها.
تمرد على الخير والبلاء
هذا الحوار يحدث كلما جئته وتحدثت معه، بعد أن يبدو على وجهه الحزن والكآبة، فتتسارع الكلمات والأسئلة عن سر كآبته، فيسارع أيضًا بما يقوله لي في كل لقاء، وكأنه يحفظ ما يقول عن ظهر قلبه ويردده لكل من يمر عليه، ولا تكاد تختلف كلماته عن السب واللعان في اليوم الذي ولد فيه، وعن فقره وبلائه، وعن مرضه وذله، وعن السبب الذي يعذب به، ولماذا خلقه الله؟ وهلخلقه ليعذبه؟، ولماذا يرى غيره من الناس سعيدًا معافًا ولديه من الأموال وكنوز الدنيا ومفاتحها ما تمتلئ به الخزائن وتلذ به الأعين ويفض به الشهوات ويتملم به من النساء ما يشاء. لا أمل من أن أكرر عليه وعلى نفسي - فربما يصيبني بعض ما يصيبه-، أردد عليه أن الله خلق الناس متفاوتين في الرزق والصحة والسعادة، وأن الله يمهل الظالم والمسرف في الحرام حتى إذا ما أمسكه لم يفلته، وأن البلاء لا يكون شرا كله بل ربما يكون من قبيل تخفيف الذنوب.
وأظل أعدد له ذنوبي وذنوبه وذنوب البشر جميعا، وكيف كان هو في صحة وسعادة ومال، لكنه لم يهتم لهذا ولم يحسب لبلائه يومًا يقابل فيه الله وهو راضي عنه، فيصمت قليلا ولا يجد ما يقوله، حتى أقابله فيعود لقوله وأعود معه لنصائحي.
وأستمر أشرح له أن أهل الجَزَع ومن ضعُف إيمانُه يتمرد على الله فيخسر الدنيا والآخرة، وأما أولو الألباب؛ فيقِفُون أمامَها موقفَ الصبر على البلاء والرضا، لا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما يُرضِي الربَّ ويُعظِمُ الأجرَ ويُسكِّنُ النفسَ ويطمئنُّ به القلبُ.
فنزولُ البلايا وحُلول المصائِب في ساحةِ العبد على تنوُّعها وتعدُّد ضُرُوبها، وما تُعقِبُه من آثار وما تُحدِثُه من آلامٍ يتنغَّصُ بها العيشُ ويتكدَّرُ صفوُ الحياة؛ حقيقةٌ لا يُمكِنُ تغييبُها، ولا مناصَ من الإقرار بها؛ لأنها سُنَّةٌ من سُنن الله في خلقه، لا يملِكُ أحدٌ لها تبديلاً ولا تحويلاً، غيرَ أن الناسَ تتبايَنُ مواقفُهم أمامَها.
ومن ذلك، قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في وصيَّته المشهورة له: "واعلم أن النصرَ مع الصبرِ".
ومن إخبارٍ بأن أهل الصبر هم أهل العزائم الذين لا تلِينُ لهم قناةٌ في بُلوغ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور) [الشورى:43].
فلا عجبَ إذًا أن يكون للصبر تلك المنزلةُ العظيمةُ التي عبَّر عنها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- بقوله: "إن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد، ألا لا إيمان لمن لا صبرَ له".
وأن يُدرِك المرءُ بالصبر خيرَ عيشٍ في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "خير عيشٍ أدركناه في الصبر"، وأن يكون الصبرُ ضياءً كما وصفَه رسول الهدى -صلوات الله وسلامه عليه-، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده.
فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفِدَ ما عنده، قال: "ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر".
وقال صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له".