عن قتادة بن النّعمان رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: " إنّ الله إذا أحبَّ عبدًا حماه عن الدّنيا كما يظَلّ أحدكم يحمي سقيمَه الماء" ، وفي روايةٍ للحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ الله تعالى ليحمِي عبدَه المؤمن وهو يُحبّه، كما تَحْمُون مريضَكم الطعامَ والشراب تخافون عليه " .
حكمة الحرمان من الرزق
يظن بعض الناس أن الشر في حرمان الله عز وجل لهم من وفير الرزق في بعض الأحيان، أو تنزيل البلاء عليهم، بالرغم من أنهم بعقلهم المحدود قد يمنعون أبنائهم وأطفالهم الصغار من المال في بعض الأوقات خوفا عليهم من الفساد، أو تدمير صحتهم بتناول المخدرات بهذا المال وكثرته، أو اللجوء إلى ما يدمر حياتهم كأن يشتري الطفل أو الولد ما يقتل به من نفسه من بعض الأشياء الضارة به، وقد يلجأ الأباء لحرمان أبنائهم من المال كعقاب لهم على تقصيرهم في حق مستقبلهم، أو يمنعوا منهم الهاتف الجوال والانترنت الذي يضيعون من خلاله أوقاتهم ويدمرون تحت تأثيره مستقبلهم.
إلا أن الإنسان نفسه الذي يحرم غيره من المال خوفا عليهم من أن يدمروا أنفسهم به، هو نفسه االذي يعترض ويتذمر ويتمرد على خالقه حين يمنعه من الرزق لبعض الوقت خوفا عليه، أو لحكمة يعلمها الله تأتي بالخير على صاحبها.
فالإنسان حين يقَع له بعض حرمان ممّا يحبّ، وحين يُحال بينه وبين ما يشتهي تَضيق عليه الأرضُ بما رحُبت، وتضيق عليه نفسه، ويُزايِله رشدُه، فيُفضي به ذلك إلى التردّي في وَهدَة الجحود لنعمِ الله السابغة ومننِه، فيصبِح ويمسي مثقَلاً بالهموم, مضطربَ النّفس، لا يهنأ له عيشٌ ولا تطيب له حال.
لذلك فهم السلف الصالح هذه الحكمة، فقد نقل الإمام سفيان الثوري رحمه الله عن بعض السلف قولَه: "إنّ منعَ الله عبدَه من بعض محبوباته هو عطاءٌ منه له؛ لأنّ الله تعالى لم يمنعه منها بخلاً، وإنما منعه لطفًا".
فإن ما يمنّ الله به على عبده من عطاءٍ لا يكون في صورةٍ واحدةٍ دائمةٍ لا تتبدّل، وهي بما يتصوره عقلك القاصر فقط كإنسان، من الخير الذي تريد، وتلح في طلبها، وإنما يكون عطاؤه سبحانه إلى جانِب ذلك أيضًا في صورةِ المنع والحَجب لهذه المحبوبات؛ لأنّه وهو الكريم الذي لا غايةَ لكرمه ولا منتهى لجودِه وإحسانه.
اقرأ أيضا:
أعظم وصية نبوية..وسيلة سهلة لدخول الجنةفالله لا يستفيد من حرمانك شيئا، فهو كما تعرف يرزق الكافر رغم كفره ويرزق المؤمن، وهو الذي لا تعدِل الدنيا عنده جناحَ بعوضة كما جاء في الحديث عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو كانت الدنيا تعدِل عند الله جناحَ بعوضة ما سقى كافرًا مِنها شربةَ ماء".
فالله عز وجل لم يكن ليمنعَ أحدًا من خلقه شيئًا من الدّنيا إلاّ لحكمةٍ بالغةٍ ومصالحَ قد تخفى على أكثرِ الناس، كما تمت الإشارة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، " إنّ الله إذا أحبَّ عبدًا حماه عن الدّنيا كما يظَلّ أحدكم يحمي سقيمَه الماء" .
فالله عزّ وجلّ حرَّم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتِها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه، وادَّخرَه لهم عندَه في الآخرة، قال تعالى: (وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف:33-35].
وصحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لبِس الحريرَ في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" أخرجه الشيخان في صحيحيهما.
وفي الصحيحين أيضًا من حديث حذيفة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلبَسوا الحريرَ ولا الديباج, ولا تشرَبوا في آنيةِ الذهب والفضّة, ولا تأكلوا في صحافِها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
وعن أمير المؤمنين عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنّه قال: " لولا أن تنقُص حسناتي لخالطتكم في ليِّن عيشِكم، لكني سمعتُ الله عيَّر قومًا فقال: (أذهبتم طَيّبَـاتِكُمْ فِى حَيَـاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [الأحقاف:20] ".
وكما قال سفيان رحمه الله، فكم من مُؤمّلٍ ما لو بلِّغ أملَه لكانت عاقبة أمره خُسرًا، ونهاية سعيِه حَسْرةً وندَمًا، وكم من حريصٍ على ما لو ظفِرَ بما أراد لأعقبَه ظَفَرُه هزيمةً يجرّ أذيالها ويتجرّع مرارتها، ولذا وجه سبحانه الأنظارَ إلى حقيقة أنّ المرء كثيرًا ما يُحبّ من حظوظ الدنيا ما هو شرٌّ له ووبال عليه، ويكره منها ما هو خيرٌ له وأجدرُ به، فقال عزّ اسمه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
ونهى سبحانه النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى ما مُتِّع به المترَفون ونظراؤهم من النّعيم، مبيِّنًا له أنّه زهرة ذابلة ومتعة ذاوية، امتحنهم بها وقليلٌ منهم الشّكور، فقال تبارك وتعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [طه:131].
وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) [الحديد:20].