تكثر أبواب الخير في شهر رمضان الكريم، وليس هناك صدقة أعظم في هذا الشّهر الفضيل من إطعام الطعام وإفطار الصّائمين، لا سيّما الفقراء وذوي الحاجة.
ورغب الإسلام في اغتنام الخير خلال شهر رمضان، ومن أعظم ما دل عليه من الخير والثواب هو إفطار الصائمين، وإطعام الطعام، والإكثار من الخير، ومن نفحات التكافل والتراحم والمواساة بين أفراد المجتمع، ليبذل القادرون بما آتاهم الله من رزقه طعاماً يُعمّرون به الطرقات والبيوت بالموائد طمعاً في فضل الله تعالى الذي وعدهم وبشّرهم به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: “مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا”.
وإطعام الطعام فضل عظيم وأجر كبيرن جعل الله تعالى هذه العبادة ضمن الكفّاراتِ وأحد أنواع الفِدية؛ فالمريض الذي لا يُرجى شفاؤه والشيخ الكبير كلٌّ منهما يُطعِم مسكيناً لكلّ يوم لقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) البقرة/184، والجماع في نهار رمضان جُعلتْ كفّارته «إطعام ستين مسكيناً» لمن لم يستطع صيام شهرين متتاليين، كما جعل الله تعالى كفّارة اليمين إطعامُ عشرة مساكين أو كسوتهم لقوله في كتابه الحكيم: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89]
وجعل الله عز وجل ثواب إطعام الطعام مدخلاً إلى الجنة، فعن عبدِاللَّهِ بنِ سَلاَمٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيامٌ، تَدخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ. رواهُ الترمذيُّ .
وأورد عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (أيُّ الإسلامِ خيرٌ؟ فقال: تُطعِمُ الطعامَ وتقرأ السّلامَ على من عرفت ومن لم تعرف).
موائد الرحمن في شهر رمضان
وبناء على هذه الفضيلة العظيمة، انتشرت في الكثير من الدول الإسلامية وعرف السّلف الصّالح موائد الرحمن في شهر رمضان لإطعام الطعام، فقد كان السلف، يحرصون أشد الحرص على إطعام الفقراء من إخوتهم المسلمين طاعةً لله وابتغاءً لمرضاته وطمعاً في ثوابه، فكان إطعام الطعام عندهم عبادة يتقربون بها إلى المولى عز وجل، ويزيدون بها من التكاتف بين أفراد المجتمع، لما تُشيعه من روح المودة والتآلف بين الناس أغنيائهم وفقرائهم.
وادّخر الله تعالى أجراً مضاعفاً لمن يُطعِم الطعام: فقد ورد في سنن الترمذي (( عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ مِنْهَا قَالَتْ مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا قَالَ بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا )) (سنن الترمذي).
ومن فضائل إطعامِ الطعام النّجاة والسلامة من الفزع في يوم القيامة، إذ قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورً} [الإنسان:8-11].
وتعد موائد الرحمن التي تنتشر في شوارع مصر، من أهم المظاهر التي تشهدها مصر في شهر رمضان المبارك، لتعكس الكرم والجود والترابط الاجتماعي بين المصريين، كما تعكس مدى حرص الميسورين على إطعام الفقراء الصائمين، استجابة لله عز وجل في قوله تعالى " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)".
ويعود تاريخ موائد الرحمن في مصر إلى عهد أحمد بن طولون حيث يعتبر أول من أقامها، وكان يقوم بجمع كبار التجار والأعيان في مصر في أول يوم من شهر رمضان على الإفطار، ثم يلقي عليهم خطبة يذكر لهم فيها، أن الغرض من المائدة هو أن يذكرهم بالإحسان والبر بالفقراء والمساكين.
أمر بن طولون أن تظل هذه المائدة موجودة طوال شهر رمضان، كما طلب من التجار وكبار الأعيان أن يفتحوا منازلهم، ويمدوا موائدهم للمحتاجين، وفي عهد الفاطميين أطلق على موائد الرحمن "سماط الخليفة" حيث كان العاملون في قصر الخليفة يقومون بتوفير مخزون كبير من الطعام، ليكون كافيا لأكبر عدد ممكن من المصريين.
اقرأ أيضا:
من عجائب إكرام الضيف| أكل عنده الشافعي فأعتق الجارية فرحًاموائد عامرة بالخيرات
وتهدف موائد الرحمن إلى أن يتوفر للفقراء والمساكين كل أنواع الطعام والمشروبات التي لا تتوافر لهم طوال أيام السنة، ولذلك يحرص القائمون على تنظيم موائد الرحمن على توفير كل العناصر الغذائية من اللحوم والمشروبات والحلويات.
وكانت موائد الرحمن تتركز قديماً بجوار المساجد العريقة مثل مسجد الحسين والسيدة زينب والأزهر، وذلك لتوافر أعداد كبيرة من التجار في هذه المناطق، لكن مع مرور السنوات بدأت بعض الهيئات في مصر على توفير موائد الرحمن مثل وزارة الأوقاف والجمعيات الخيرية والأهلية، كما تشرف وزارة الصحة على مراقبة ما يقدم في هذه الموائد من أطعمة ومشروبات حرصا على سلامة المترددين عليها.
وتشكل موائد الرحمن مجموعة من الروابط الإسلامية في الاجتماع بين المسلمين على مائدة واحدة، حيث لا تُقدّم هذه الموائد الطعام فقط، بل هذا الجو الرمضاني الذي يسوده الروحانيات والحميمية، والذي يشكّل مناخاً طيباً لاكتساب المودة والمحبة والتعارف استجابة لقوله تعالى " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" من أناس قد لا تعرفهم، لكنك تستأنس بهم، وتسعد بمجاورتهم على تلك الموائد خلال الشهر الفضيل.
وجاءت تسمية تلك الموائد بـ”الرحمن” من سورة المائدة، حيث أنزل الله على سيدنا عيسى بن مريم مائدة طعام من السماء لتكون آية للعالمين، كذلك فإن اسم “الرحمن” يحثّ على التراحم والمودة بين المسلمين، حيث إن المودة تُعتبر الهدف الرئيسي لتلك الموائد، وقد انتشرت موائد الرحمن بكثرة في مصر خلال القرن الأخير، وصارت متنفّساً للفقراء يتناولون فيها الطعام، وساحة تنافس بين الأغنياء لتقديم ما لذّ وطاب في موائدهم.
وكانت الموائد تُعدّ في عهد الفاطميين تحت اسم “دار الفطرة”، وتُقام بطول 175 متراً وأربعة أمتار، ومن أشهر أصحاب الموائد في تلك الفترة “الأمير بن الضرات” المولود بحي شبرا بالقاهرة، حيث كان ينفق على موائده ما يقرب من مليوني دينار سنوياً، والتي كانت بطول خمسمائة متر، ويجلس على رأسها، وأمامه ثلاثون ملعقة من البلور، يأكل بكل ملعقة مرة واحدة ثم يلقي بها ويستخدم غيرها.
وقد تطوّرت مائدة الرحمن في العصر الحديث لتتواكب مع متغيّرات العصر، وتحوّلت من مائدة يوضع عليها الطعام ويأتي إليها الصائمون لتناوله، إلى وجبات تُعدّ وتُرسل إلى الفقراء في البيوت، أو تُوزع على المستشفيات ودور الأيتام والمسنين، وأيضاً تُقدّم للمارة في الشوارع في وقت الإفطار.