لا يخلو مسلم من خطأ يقع فيه عمدا أو سهوا لكن شأن المؤمن الواعي يختف عن شأن غيره في التعامل مع ما يقع فيه من اخطاء في حق الغير إذ لديه ثقافة الاعتذار وتصحيح الخطأ ورد المظالم ورفع الضرر الذي وقع على الغير بسببه.
ثقافة الاعتذار:
فثقافة الاعتذار ترفع صاحبها ولا تنقص من قدره بل العكس وهو إن أصر على موقفه وراح يبرر فإنه يكون متكبرا عن قبول الحيق وفي الحديث: الكبر بطر الحق وغمط الناس.
ولقد جاء في القرآن الكريم نماذج من هذه الثقافة في سورة الكهف وحين صحب نبي الله موسى عليه السلام الرجل الصالح(الخضر) فنهاه الخضر عن سؤاله عن شيء حتى يحدثه به ويوقفه على حقيقة الأمر، فلما خالف نبي الله موسى عليه السلام الشرط اعتذر عن ذلك فقال: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}(الكهف: 73).
الصحابة وثقافة الاعتذار:
كما جاءت في السنة النبوية المطهرة رائعة تظهر ثقافة الاعتذار فقد روى أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف في غزوة بدر وكان في يده شيء يسوي به الصفوف، فرأى سواد بن غزية بارزا فطعنه في بطنه وقال له: "استو يا سواد". فقال سواد رضي الله عنه: يا رسولَ اللهِ أوجَعْتَني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني قال فكشف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن بطنِه وقال: "استقِدْ". فاعتنقَه سواد فقبَّل بطنَه، فقال: "ما حملكَ على هذا يا سوادُ؟". قال: يا رسولَ اللهِ حضَر ما ترى فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يمَسَّ جلدي جلدَك فدعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بخيرٍ.
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "التّأنّي من الله، والعجلة من الشّيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله (يعني لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى)، وما من شيء أحبّ إلى الله من الحمد".
الاعتذار في حياة الصالحين:
وبتتبع حياة السلف الصالح والتابعين نجد عجبا لهذه الثقافة لا تشجع على الخطأ إنما ترسي مبدأ إن أخطأت فاعتذر فقد اعتذر رجل إلى إبراهيم النّخعيّ رحمه الله تعالى، فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب، ونقل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في الأخرى لقبلت عذره، ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله : إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر.
وقد اعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: تقدّمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيّئة حسنتين.
فتح الله عز وجل للتوبة بابا لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها، وما ذاك إلا لأنه يحب أن يرحم عباده ويحب العذر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِن أَجْلِ ذلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَليسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ أَنْزَلَ الكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ".
إياك وما يعتذر منه:
لئن كان الله تبارك وتعالى يحب العذر، ولئن ندب الشرع والأدب إلى تقديم الاعتذار عند الخطأ فإن الأولى أن يجتنب العبد ما يوجب الاعتذار قدر طاقته، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ولا تتكلمْ بكلامٍ تعتذرُ منه".