في واحدة من تجارب علم النفس، قام العالم "مظفر شريف" بتقسيم مجموعة من الأطفال إلى فريقين، وأعطى لكل منهما اسماً وشعاراً، وتركهما للتنافس الطبيعي. ثم قام باختبار تجاوب أفراد كل مجموعة تجاه بعضهم البعض وتجاه أفراد المجموعة الأخرى.
وكان من نتائج هذه التجربة أن أفراد كل مجموعة صاروا ينتمون للمجموعة ككل، وصار كل فرد منهم ينتمي "للمجموعة الداخلية In group"، بينما اعتبروا البقية "مجموعة خارجية Out group"، ولاحظ نشوء قوى الانحياز والتصارع بين المجموعتين، والتي لم تنكسر إلا بالانتماء إلى بعضهما البعض تجاه خطر مشترك قام مظفر باختياره، وهو شح الماء والاضطرار للبحث سوياً عنه.
الاحتياج للانتماء يعتبر أحد أكثر الاحتياجات أصالة وخطورة. ونحن ندين له بالفضل في ما نحن عليه، بدءً من التزاوج والتناسل إلى قيام الحضارات والعمران، فاحتياج الإنسان للتآلف كان النواة التي تشكلت حولها الأمم، كما أنه كان سبباً في الصراعات والحروب.
وبينما تقرأ الأسطر التالية قد تخلط بين الاحتياج للانتماء والاحتياج للقبول الذي تكلمنا عنه في المقالة الثانية من هذه السلسلة، والفارق الجوهري بينهما هو أن الاحتياج للقبول هو احتياج بسيط بينما الاحتياج للانتماء هو احتياج مركب. والاحتياجات البسيطة هي التي نولد بها، مثل احتياج الحب الأساسي والقبول والأمان، بينما يدرك جهازنا النفسي الاحتياجات المركبة في عمر متأخر نسبياً، وهي مركبة لأنها تتركب من أكثر من مجرد معنى شعوري واحد، ومن هذه الاحتياجات المركبة الاحتياج للانتماء، ويعني باختصار: الاحتياج للقبول الاجتماعي، أو الاحتياج للمرجعية.
ماذا يعني الانتماء؟
يعني الانتماء أن تكون شيئاً أكبر من ذاتك، أن تجد الاهتمام بين مجموع، وأن تحظى بانتباههم، وأن تشارك في دور لا تستطيعه بمفردك، وقد وضع كل من "روي بوميستر" و"مارك ليري" نظريتهما عن الاحتياج للانتماء، وأدلتهما تلخصت في نزوعنا كبشر إلى تكوين روابط اجتماعية، والتي سريعاً ما نجد من الصعب كسرها، وأن الانتماء للآخر هو أحد طرق اكتساب المعارف، لأننا حين ننتمي تزول الحواجز المعرفية مع دائرة الانتماء، ويتم تشارك الأفكار على مستوى دون الوعي، وأن وجودنا بالقرب من دائرة الانتماء يمنحنا شيئا من النشوة الشعورية، وعلى الجهة الأخرى فإننا نعاني حين ننفصل عن دائرة الانتماء، وحتى الانفصال المؤقت بسفر أحد الزوجين مثلاً (والزواج أحد صور الانتماء للآخر)، فإننا نعاني حالة من التوتر والضيق. ما دفع كلاهما إلى استنتاج أننا كبشر مدفوعين باحتياج فطري إلى الانتماء لشيء ما يتجاوز الذات.
الاحتياج للانتماء هو احتياج مركب من الاحتياج للقبول ضمن إطار اجتماعي، والاحتياج للتواصل والاتصال، والاحتياج للشعور بكوننا جزءا من كل. وهو يلعب دورا خطيرا في التأثير والتوجيه، ويتم اعتباره كمحفّز داخلي، وقد وضعه "ابراهام ماسلو" في منتصف هرم الاحتياجات، ومن خلال الانتماء يعرِف الفرد نفسه ويُعرّفها، وهنا يكمن الخطر؛ فالكثير من السلوكيات المستهجنة في مرحلة المراهقة منبعها من احتياج الانتماء، الاتفاق بين رفقة الأصدقاء، أو فريق النادي، أو طائفة فكرية أو دينية على شعار أو زي موحد، هو شيء يعني أن كل فرد فيها جزء منها، وما يأتي بعد ذلك هو الاشتراك في ما هو أبعد من مجرد الشعار.
يتزامن مع إشباع احتياج الانتماء خطوة التوافق، وهنا تذوب الاختلافات، ويتماهى الفرد مع المجموع لتحقيق الدمج اللازم للشعور بالانتماء، قد يتخلى خلال هذه المرحلة عن الكثير من الصفات وقد يكتسب غيرها. ويسمى أحياناً تأثير الجموع. وأتذكر هنا قصة قرأتها من قبل حين مر أحد المعارضين لهتلر أمام إحدى التجمعات لأنصار هتلر يستمعون لأحد خطاباته، وانضم إليهم ثم لم ينته الخطاب إلا وهو يشعر بالحماسة لهتلر، ولما عاد إلى بيته أدرك أنه قضى ساعة تحت تأثير الجموع وحمى التوافق.
خطورة عدم اشباع الانتماءإذا كنت أعتبر أن الاحتياجات غير المشبعة هي على درجة عالية من الخطورة على الصحة النفسية، فإن احتياج الانتماء غير المشبع هو قنبلة موقوتة. إنه يغيرنا من الداخل على المستوى النفسي، السلوكي، والمفاهيمي؛ فكم من الشباب يتخلّون عن الكثير من مفاهيمهم لكي لا يصطدموا بقيم ومفاهيم دائرة الانتماء، والفئات التي يلفظها المجتمع يدفعها الاحتياج للانتماء إلى تكوين مجتمعات تحتية، والتي تتشارك تدريجياً في بعض الصفات، وتنتمي لبعضها البعض بكونهم أفراد المجموعة، ويصبح المجتمع الخارجي بالنسبة لهم مثل المجموعة الأخرى في تجربة مظفر (في أحسن الأحوال مجموعة مختلفة ومنافسة).
لذلك وفي ضوء هذا الفهم، يمكن إدراك أهمية الزي الموحّد، والشعار المعلن، والأعياد الوطنية، والمناسبات الدينية، بل ويمكن فهم الحمى الدائرة في الغرب الآن تجاه فرض زي ما أو حظر زي آخر، وذلك كله في ضوء فهم دور الانتماء.
د. شهاب الدين الهواري – اختصاصي الطب النفسي
*بتصرف يسير