مراعاة مشاعر الغير فضيلة عظيمة حث عليها الإسلام وأوصى بها رغبة في إشاعة الود والبعض عما يعكر صفو العلاقات.
فليس يعقل أن تتعامل مع الناس بجفاءٍ وغلظةٍ أو تتعمد إيذاءهم ثم تتوقع من الآخر أن يحفظ غيبتك ويحرص على مصلحتك..
ومن الضوابط العامة التي أرساها الإسلام البعد عن كل ما من شأنه إشاعة الخلاف والاختلاف والتناحر والتخاصم والبغضاء، في المقابل الحث على كل ما من شأنه نشر المودة والرحمة بين أتباعه.
ومن صور الإيذاء التي يمكن أن تؤذي بها غيرك وأنت لا تدري التناجي وان تسر بحديث لغيرك في جمع من الناس وفي هذه الحالة تفتح المجال للشيطان ان يعبث بذهن اخيك ليوهمك انك تتحدث عنه بشيء ويظل ينفخ في هذا الأمر وبما نشأ بينكما خلاف بسبب هذا التناجي وأنت لا تدري سببه.
آداب التناجي:
والتناجي ليس منهيا عنه بإطلاق لكن له آداب حتى يكون مباحًا، ومن هذه الآداب أن يكون في طاعة الله ورضاه، لا في معصيته وسخطه، ـ وهذا هو الأصل في الكلام كله جهراً كان أو مناجاة ـ، وقد ذمَّ الله عز وجل المنافقين حين تناجوا بالإثم ومعصية الرسول، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ}(المجادلة: 8)، ثم عمم الله تعالى الحُكم فأدخل أهل الإيمان في النهي، وأمرهم بأن يكون التناجي بالخير والتقوى فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى}(المجادلة: 9) قال القرطبي: "نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} أي: تساررتم: {فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى} أي: بالطاعة والتقوى بالعفاف عما نهى الله عنه".
كما أن من آداب التناجي ألا يتناجا اثنان وبين أحدهما وأحد الجالسين شقاق وخلاف، قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنَّ ذلك يُحزنُه): "ويؤخذ من التعليل استثناء صورة مما تقدم عن ابن عمر من إطلاق الجواز إذا كانوا أربعة، وهي مما لو كان بين الواحد الباقي وبين الاثنين مقاطعة بسبب يعذران به، أو أحدهما، فإنه يصير في معنى المنفرد.. وقد نقل ابن بطال عن أشهب عن مالك قال: لا يتناجى ثلاثة دون واحد، ولا عشرة، لأنه قد نهي أن يترك واحدا.. لأن المعنى في ترك الجماعة للواحد كترك الاثنين للواحد، قال: وهذا من حسن الأدب لئلا يتباغضوا ويتقاطعوا. وقال المازري ومن تبعه: لا فرق في المعنى بين الاثنين والجماعة لوجود المعنى في حق الواحد. زاد القرطبي: بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأشد، فليكن المنع أولى، وإنما خصَّ الثلاثة بالذكر لأنه أول عدد يتصور فيه ذلك المعنى". وقال السندي: "قَوْله (إذا كنتم ثلاثة) يَدُلّ على أَنَّه يجوز ذلك إذا كان أكثر مِنْ ثلاثة، لأَنَّه يُمْكِن أَنْ يَأْتَنِس الثالث بالرّابع، وأيْضاً بوجود الرَّابع لا يخاف الثّالث على نفسه منهما الشَّر".
الاستئذان قبل التناجي:
ـ ومما ينبغي على المسلم إذا دخل على اثنين يتناجيين قبل دخوله عليهما، أو كان موجوداً معهما في وجود آخرين: ألا يتصنت لسماع كلامهما، أو يجلس بينهما، فقد روى أحمد في مسنده عن سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: (جلست إلى ابن عمر ومعه رجلٌ يُحدِّثه، فدخلتُ معَهما فضرب بيدِه صدري وقال: أما علمت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا تناجى اثنان فلا تجلسْ إليهما حتى تستأذِنُهما). قال ابن حجر: "قال ابن عبد البر: ولا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجيين في حال تناجيهما، قلت: ولا ينبغي للداخل القعود عندهما إلا بإذنهما، لما افتتحا حديثهما سرّاً وليس عندهما أحد، دلَّ على أن مرادهما ألا يطلع أحد على كلامهما.. فالمحافظة على ترك ما يؤذي المؤمن مطلوبة وإن تفاوتت المراتب".
ـومن الآداب أيضا إن كان ضروريا وجود ثالث معهما وجب عليه أن يستأذنه بأسلوب لطيف رقيق، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذا كُنْتُمْ ثلاثة فلا يتناجى اثْنَان دون الثّالث، إلَّا بإذنه، فإنّ ذلك يُحْزِنه) رواه أحمد والترمذي.