الإخلاص للهِ تعالى هو أساس كل عملٍ، وغاية كل مرِيد، فعمل أو إيمان بلا إخلاص لا أجرَ له، وصلاة بلا إخلاص لا ثواب لها، وصدقة خرجت من جيب صاحبها مراءً بلا إخلاص لا قيمة لها، ولحية وجلباب بدون أخلاق لا عبرة بهم ولا ثمن لهم، فالبناء الصَّحيح للمسلم لا بد وأن يكون على المنهجيَّة الربانيَّة، وإن اختلاف هذه المنهجيَّة واضطراب مسيرتها يعطي نماذج ومخرجات؛ إما باهتة إيمانيًّا، أو قابلة للسُّقوط في أي هبَّة ريح.
وقد روي عن البراءُ رضي الله عنه يقول: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ مقنَّع بالحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتِل أو أُسلِم؟ قال: ((أسلِم ثمَّ قاتِل))، فأسلَمَ ثمَّ قاتَلَ فقُتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عَمِل قليلاً وأُجِرَ كثيرًا))؛ رواه الشيخان.
هذا هو الترتيب الذي دل عليه النبي صلى الله عليه وسلم لكمال الإيمان والعمل بإخلاص من أجل الوصول لطريق الله ومراده، والنعيم في جنته، فكم من مُقبِل جعلناه يقاتِل قبل أن يسلِم، جعلناه يدعو قبل أن يُدعى، جعلناه يتباكى دون أن يَخشع، جعلناه يصلِّي لقِبلة الكعبة دون أن يعرف قِبلةَ ﴿ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 115]، جعلناه يَصوم بجوارحه دون أن يَعرف صوم القَلب والجوارح.
يقول الله تعالى: ﴿ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 232]، إشارة إلى أنَّ هذا القرآن لا يُوعَظ به إلاَّ المؤمن، فعن جندب بن عبدالله قال: "كنَّا غلمانًا حزاوِرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعلَّمنا الإيمانَ قبل القرآن، ثمَّ تعلَّمنا القرآن فازدَدْنا به إيمانًا، وإنَّكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان".
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الأمانة نزلَت في جذر قُلوب الرِّجال، ثمَّ علِموا من القرآن، ثم علِموا من السنَّة))؛ رواه الشيخان.
وعن عبدالله بن عُمر رضي الله عنهما قال: "لقد عشنا بُرهةً من دهرٍ وأحدُنا يرى الإيمانَ قبل القُرآن، وتنزلُ السُّورةُ على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلَّمُ حلالَها وحرامها، وأمرَها وزاجرها، وما ينبغي أن نُوقف عنده منها، كما تعلَّمون أنتم اليوم القُرآن، ثُمَّ لقد رأيتُ اليوم رجالاً يُؤتى أحدُهم القُرآن قبل الإيمان، فيقرأُ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ولا يدري ما آمرُه ولا زاجرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، ينثُرُه نثر الدَّقل".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " إنَّما نزل أول ما نزل منه سورةٌ من المفصَّل، فيها ذكر الجنَّة والنَّار، حتى إذا ثاب النَّاسُ إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمرَ، لقالوا: لا ندع الخمرَ أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزِّنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإنِّي لجارية ألعب: ﴿ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ﴾ [القمر: 46]، وما نزلَت سورة البقرة والنِّساء إلاَّ وأنا عنده".
هكذا كان أثر ذلك في قلوب الصَّحابة رضي الله عنهم، فكان القرآن يحكي أمورَ الآخرة حتى صار الصَّحابة كأنَّهم يعاينوهاَ، فهانت عليهم أنفسُهم، وبذلوا جميعَ ما يملكون طلبًا لجنَّة الله عزَّ وجل، فتارة يقول: ﴿ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ﴾ [طه: 15]، وتارة يُقسِم بوقوعها: ﴿ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ﴾ [الذاريات: 1 - 6]، وتارة يأمر نبيَّه بالإقسام على وقوعها: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ [سبأ: 3]، وتارة يذمُّ المكذِّبين بها، وتارة يَمدح المؤمنين بها، وتارة يخبر بقرب القيامة.
اقرأ أيضا:
الإيمان قول وعمل واعتقاد.. وهذا هو الدليلكيف تصل بالإيمان؟
- الإيمان هو أفضل الأعمال؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: ((إيمانٌ بالله ورسوله))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثمَّ ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور)).
-الإيمان هو النَّجاة يوم القيامة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تدخلون الجنَّةَ حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَلا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحابَبتم؟ أفشوا السَّلامَ بينكم)).
- الإيمان هو الأساس والأصل في التربية
- الإيمان هو الزَّاد في مواجهة الشَّهوات، ودفع الشُّبهات.
-الإيمان أهم ما يعين المرءَ على الثَّبات على دين الله، فحين سأل هرقلُ أبا سفيان رضي الله عنه عن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "وسألتُك أيرتدُّ أحدٌ سخطةً لدِينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرتَ أنْ لا، وكذلك الإيمان حين تخالِط بشاشتُه القلوب".
- قوة الإيمان أعظم حاجز بين المرء وبين الحرام والمعاصي؛ قال الله تعالى ن: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [النحل: 99]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن...)).
-الإيمان يرزق حسن الخاتمة، فالعبد يُختَم له بما في قلبه من إيمانٍ وعملٍ صالح.
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إنَّ الرجل ليعملُ عمل أهل الجنَّة فيما يبدو للنَّاس، وهو من أهل النَّار، وإن الرجل ليعملُ عمل أهل النار فيما يبدو للنَّاس، وهو من أهل الجنة)).