يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (البقرة: 30)، فكان استخلاف الله للإنسان في أرضه، وأوكل إليه مهمة أساسية، وهي إعمار الأرض، بعد توحيد الله تعالى وحسن عبادته، حيث يقول جل في علاه: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا» (هود: 61).
كما يقول عز وجل أيضًا: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا» (الأعراف: 56)، وهي ذات الثقافة التي جاء بها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، ثقافة العمران في الأرض، فقد جاء الإسلام بالعلم والبناء، لا للهدم أو الجهل، وبالتالي لما علموا المسلمين الأوائل ذلك، بنوا نهضة مازالت واضحة المعالم وتتباهى أمام كل الحضارات الغربية، بينما حينما أضاع المسلمين كدهم وتعبهم وشغفهم نحو العلم، اندثرت حضارتهم للأسف.
عمران داخلي
لكن قد يتصور المسلم، أن العمران إنما مرتبط بالبناء من حوله فقط، ولكن الحقيقة أن الإسلام اهتم أكثر ما اهتم، ببناء الإنسان من الداخل، ولكن كي يبنى الإنسان من الداخل عليه أولا أن يوطد علاقاته بمن حوله، لأن لا يمكن لإنسان وحده أن يقيم حياة كاملة، فلا عمران لوطن بالفرقة والشتات، ولا نهضة لمجتمع بالتشتت والتمزق والصراع؛ وقد قال الله تعالى: «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا» (آل عمران: 103).
وقال أيضًا سبحانه وتعالى: «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» (الأنفال: 46)، والنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول –كما ثبت في صحيح مسلم من حديث النعمان-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».
اقرأ أيضا:
أقسم به وفضله على غيره.. أسرار وثواب وفضل يوم عرفة ولماذا اختاره الله للحج الأعظم؟أعمدة البناء
أيضًا على كل مسلم، أن يعي جيدًا أن أي بناء لن تقوم له قائمة بدون أعمدة، ومن ثمّ فإن أعمدة الإنسان الأساسية للعمران هي أخلاقه، لأن الأمة التي تتنازل عن قيمها لا تنهض ولا تدوم، بل هي أمة هشة، سرعان ما تذوب كالسكر في الماء، وتضمحل بين الأمم، فالأخلاق دليل قوة الوطن ورمز آدميته وإنسانيته، وقد كانت شريعتنا -ولا زالت- هي شريعة الأخلاق والقيم مع النفس والإنسان والأحياء.
قال الله تعالى في وصف حبيبنا وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (القلم: 4)، كما قال نبينا الحبيب عن نفسه وعن بعثته: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»، ومن ثمّ فليراجِع كل واحد منا أخلاقه وأخلاق ذويه ومن هم في مسؤوليته ورعايته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ذلك أن قيمة الأخلاق في بناء المجتمعات كقيمة الأب لولده والأم لرضيعها.