المنح الربانية.. هي تلك الليالي الطويلة في الشتاء لكي يقف العبد بين يدي ربه يناجيه كيفما شاء وقتما شاء، حتى يطلع الفجر.. وهي أيام رمضان ولياليه لكي ينعم وينهل فيها العبد المسلم من فيض عظيم لا ينتهي، وهي لحظات قل صلاة الظهر تفتح للعبد أبواب الجنة، وهي لحظات التسبيح التي يمن بها الرب على عبده، وهي لحظات الاستغفار التي يهديها الله عز وجل لعباده بين وقت وآخر.
بينما هناك البعض من يتصور أنه طالما ظل ممدودًا بالمال والسلطة وتأييد البشر فهو بالتأكيد ممنوحًا بركة المولى عز وجل في كل شيء.. طالما أن الأمور تسير بشكل طيب، ورزقه وفير، والوقة تأتيه على طبق من ذهب، فيقول (هذا تأييد رباني) ونفحات ربانية.. وهم لا يدرون أن هذا ليس شرطًا على الإطلاق .. وإنما أحيانًا تكون هذه الأمور إرهاصات لقرب الزوال والنهاية .. تأمل هذه الآية القرآنية، قال تعالى: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ 55 نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ».
مواسم المنح الربانية
المنح الربانية كثيرة وتأتي في أوقات متعددة لأنها متنوعة ومختلفة، ومن ثمّ فلكل منحة ربانية موسم منها ما يكون مرة في السنة ومنها ما يكون مرة في الشهر ومنها ما يكون مرة في الأسبوع ومنها ما يكون يوميا بالمنح الربانية لا تعد ولا تحصى، لكن من أعظم المنح الربانية التي من الممكن أن يحصل عليها المرء، هي (نور البصيرة)، فهذا النور منحة ربانية لا تشاهدها الأبصار، ولا تحدها الكلمات، بل يحسها كل صادق في إيمانه، والبصيرة هي الفطنة، قال تعالى : «أَوَ مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ, مِّنهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ» (الأنعام: 122).
فهذا مثل للذي هداه الله بعد الضلالة، وأضاء بصيرته بنور الحجج والآيات، يتأمل بها الأشياء فيميز بين الحق والباطل، فيجد الإنسان في قلبه هذا النور فتتكشف له حقائق الوجود وحقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث، فيجد في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل شيء.
اقرأ أيضا:
إياك والنظر إلى ما بيد الناس.. إذا أردت أن تكون حرًا فاترك الطمعتجاهل المنح الربانية
فلا تتجاهل هذه المنح، وعليك أن تعلمها جيدًا، حتى لا يفوتك أجر عظيم، قال تعالى: «قَد جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُم فَمَن أَبصَرَ فَلِنَفسِهِ وَمَن عَمِيَ فَعَلَيهَا وَمَا أنَا عَلَيكُم بِحَفِيظٍ,» (الأنعام: 104)، وفي ذلك يقول الإمام القرطبي رحمه الله: «قد جاءكم آيات وبراهين يُبصر بها ويُستدل. جمع بصيرة وهي الدلالة، ووصفها بالمجيء لتفخيم شأنها، إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس، كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض».
قال تعالى: «وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إلَيكَ رُوحًا مِّن أَمرِنَا مَا كُنتَ تَدرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِن جَعَلنَاهُ نُورًا نَّهدِي بِهِ مَن نَّشـَـاءُ مِن عِبَادِنَا وَإنَّكَ لَتَهدِي إلَى صِـــرَاطٍ, مٌّستَقِيمٍ,» (الشـــورى: 52)، و(رُوحًا) هنا أي وحيًا من أمرنا، وسماه الله عز وجل روحًا لأنه تحيا به القلوب الميتة لما فيه من الهداية والعلم الذي هو كالحياة.