عبقرية الإمام الليثي.. فقيه كل العصور الذي ظلمه تلاميذه والعلماء
بقلم |
أنس محمد |
الجمعة 20 ديسمبر 2024 - 11:46 ص
ربما لا يعرف الكثير من المسلمين من أئمة الفقه سوى أئمة المذاهب الأربعة، وعلى رأسهم الإمام مالك والإمام أبو حنيفة النعمان والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل، ولكن اتفق كثير من أئمة الفقه المعتبرين والعلماء الاجلاء، على عبقية إمام أخر، لم تنصفه كتب العلم، ولم يعطه الناقلون والرواة والمحققون حقه، ألا وهو الإمام الليث بن سعد، الذي يسمى بـ "المجهول الأفقه من مالك".
فقد كان كل إمام في زمانه لكل أمة من الأرض هو العلم الذي تستنير به أمته، ويجلس الناس تحت أقدامه لينهلوا من بحر علمه، فكانوا منارات هداية ليس للعرب والمسلمين فقط بل للعالم أجمع، بعدما ساهموا في بناء حضارات عديدة، قامت عليها دول عظمى مثل العراق والشام وفارس والقيروان والأندلس.
إلا أن الإمام العالم الليث بن سعد، كان من نوع فريد وعبقرية نادرة، ومع لم يأخذ ما يستحقه من الشهرة كما أخذ الأئمة الأربعة، فقد اتفق الكثير من المحققين أن الليث أفقه من مالك، وأنه فاق في علمه وفقهه إمام المدينة المنورة مالك بن أنس، إلا أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، فلم ينل الليث من الشهرة ما ناله أقرانه.
واسمع قول الإمام الشافعي نفسه الذي شهد بأن: "الليث أَفقه من مالك إِلاَ أَنَ أَصحابه لم يقوموا بِه" بحد قول الشافعي.
وقال ابن بكير: "سمعت اللَّيث يقول: سمعت بِمَكَة سَنَةَ ثَلاث عشرَةَ ومائَة مِنَ الزُّهْرِيِ وَأَنا ابن عشرِين سَنَة".
ووصف الإمام الشافعي الإمام الليث بن سعد، أيضا بقوله: "نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافي الوجدان".
ويتأسف الكثير من العلماء على ضياع جهد الإمام الليث بن سعد، الذي كان واسع العلم وشديد الهمة، سخي القلب والروح واليد، فتركوا أثره ومدرسته وفقهه، بعد أن تجاهل تلاميذه أثره، فلم يحفظوه، بالرغم من جهد الإمام الشافعي رضي الله عنه أن يجمع من تراثه وآثاره قدر ما يستطيع عوانى كثيرا فى سبيل هذا الغرض.
وتساءل الكثير من العلماء عن سر تعمد هذا التجاهل من قبل تلاميذ الإمام الليث بن سعد لتراثه وفققه وعلمه، ولماذا لم يعطوا هذا الفقيه الجليل حقه في أن يدونوا كل ما يكتب مثلما فعل تلامذة أبي حنيفة ومالك والشافعي.
مولده ونسبه
هو الإمام الحافظ العالم أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن بن عقبة الفهمي القلقشندي ولد (94 هـ/713 م وتوفي – 175 هـ/791 م) فقيه ومحدث وإمام أهل مصر في زمانه، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة.
وُلد الليثي بن سعد في قرية قلقشندة بمحافظة القليوبية بدلتا مصر، وهو من أسرة أصلها فارسي من أصبهان.
يقول الإمام الذهبي عن الليث بن سعد في سير اعلام النبلاء: "الليث بن سعد ، ابن عبد الرحمن ، الإمام الحافظ شيخ الإسلام ، وعالم الديار المصرية أبو الحارث الفهمي مولى خالد بن ثابت بن ظاعن . وأهل بيته يقولون : نحن من الفرس، من أهل أصبهان. ولا منافاة بين القولين ".
كان الليث هو فقيه مصر وعالمها، ومحدثها، ومحتشمها ، فكان ولاة مصر وحكامها وقضاها يعملون من تحت أوامره ، ويرجعون إلى رأيه ، ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم ، فاستعفى من ذلك.
نشأته
نشأ الليث بن سعد محبا في طلب العلم، حريصًا على أن يتلقاه من الشيوخ والعلماء، فطاف البلاد كثيرًا لأجل هذا الأمر، وتلقى الليث العلم عن كبار العلماء مثل يزيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة وغيرهما من المصريين، ومن غير المصريين أمثال نافع المدني، وعطاء بن أبي رباح وابن شهاب الزهري وسعيد المقبري وابن أبي مليكة وأبو الزبير المكي وعقيل ويحيى بن سعيد وغيرهم.
عرف عن الليث بن سعد نبوغه وعبقريته، وشهد الكثير من كبار العلماء والفقهاء للإمام الليث بن سعد بذلك، قال الفضل بن زياد: «قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث”.
وقال الحافظ أبو نعيم: “كان الليث فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث أن متولي مصر وقاضيها وناظرها من تحت أوامره ويرجعون إلي رأيه ومشورته، وقد أراده المنصور أن ينوب عنه على الإقليم فاستعفى من ذلك”.
وقال ابن سعد: “كان الليث قد استقل بالفتوى في زمانه”. وقال ابن وهب: “لولا مالك والليث لضل الناس”.
وقال الحافظ أبو نعيم: “حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن سهل، حدثنا أحمد بن إسماعيل الصدفي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي يقول: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس“.
وقال أبو داود: “حدثني محمد بن الحسين، سمعت أحمد يقول: الليث ثقة، ولكن في أخذه سهولة”.
وقال سعيد الآدم: “قال العلاء بن كثير: الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا”.
وغير ذلك من أقوال العلماء وشهادتهم في علم الليث بن سعد، مثل ابن تغري بردي الذي قال: “كان كبير الديار المصرية ورئيسها وأمير من بها في عصره، بحيث أن القاضي والنائب من تحت أمره ومشورته”. وإذا كان أصحابه لم يقوموا بفقهه فاندثر مذهبه، فقد قاموا بحديثه، وحدثوا عنه في الآفاق، فروايته منتشرة في كتب السنة المختلفة، وهو ثبت ثقة بإجماع أهل الحديث.
وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول أصح الناس حديثا عن سعيد المقبري الليث بن سعد يفصل ما روي عن أبي هريرة وما روي عن أبيه عن أبي هريرة هو ثبت في حديثه جدا. وروى عبد الملك بن شعيب عن أبيه قال: قيل لليث: "أمتع الله بك إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك"، فقال: “أو كل ما في صدري في كتبي لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب”.
فضل الليث بن سعد
كان يتميز الإمام الليث أنه كان ذا ثروة كثيرة ولعل مصدرها الأراضي التي كان يملكها، ومع ذلك كان زاهدًا ، فكان يُطعمُ النَّاس في الشتاء الهرائس بعسل النَّحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السُكَّر. أما هو فكان يأكل الخبز والزيت.
وروي عن محمد بن رمح يقول كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار فما أوجب الله عليه زكاة درهم قط.
وقال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن عربي اللسان يحسن القرآن والنحو ويحفظ الحديث والشعر حسن المذاكرة.
تحصّل الليث بن سعد على قدر كبير من العلم من خلال سماعه من تابعي عصره في مصر والحجاز والعراق، حتى قال ابن حجر العسقلاني في “الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية”: “إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد”.
و ألمّ الإمام الليث بفقه أبي حنيفة ومالك بل وكان على اتصال بمالك من خلال المراسلات.
وكان الليث بن سعد في الفتوى من أهل الأثر من كتاب وسُنّة وإجماع لا من أهل الرأي، وخالف الليث فقه معاصره مالك بن أنس كثيرًا خاصة فيما يتصل بآراء مالك الفقهية التي بناها على عمل أهل المدينة أحد أصول فقه مالك.
وكان الليث بن سعد يبني فقهه على ما صحّ عنده من الأحاديث، وإجماع الصحابة.
وعلى الرغم من أن مالك بن أنس كان إمامًا لأهل الأثر، إلا أن الشافعي كان يرى بأن: “الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس”، وكذلك كان رأي معاصريهما من الفقهاء الذين ألمّوا بفقه مالك والليث، مثل سعيد بن أبي أيوب الذي قال: “لو أن مالكًا والليث اجتمعا، كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالك فيمن يزيد” .
تعرض مذهب الليث بن سعد للزوال بعد فترة وجيزة من وفاته، وهو ما يتبين من قول الشافعي المتوفي سنة 204 هـ أي بعد نحو ثلاثين عامًا فقط من وفاة الليث،: “الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به”. وكان ذلك لإهمال تلاميذه في تدوين علمه.