الإنسان أسير الأمل، وأسير الشهوة، فقد يعرف أن الحرام حرام ويرتكبه، معتمدًا على ظنه في أن يمهله الله حتى يتوب ويأمل أن يمد الله في عمره ويمكث عشرات السنين يفعل ما يشاء، حتى إذا ما كبر وشاخ عمره، وقتها يفكر في أن يعود إلى الله ويحج ويصلي ويستغفر، ولعل هذا الأمل هو ظن الكثير من الناس حتى كاتب هذه السطور، فكلنا نسير وراء الأمل في أن يمدنا الله تعالى طول العمر ونتوب بعد أن تهرم أعمارنا.
فهذا هو مخطط الشيطان الذي ينصب من خلاله أفخاخه لنا، بأن نفعل ما نشاء ونلهث وراء ما نشاء، على اعتبار هذا الأمل الشيطاني، ثم نتوب، ولكن هل ضمن الإنسان عمره؟، وهل عرف متى ينقضي أجله حتى يجري وراء هذا الأمل؟.
فهناك فرق بين أبواب الرجاء والأمل والطمع بالفوز برحمة الله وعفوه ورضوانه، بعد أن يفعل العبد ما عليه من الطاعة والاستغفار والتوبة الحقيقية، وبين الوهم وتأجيل التوبة والاستمرار في المعصية على أمل أن يتوب العبد فيما بعد.
لذلك يقول الله تعالى: "وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ( الزمر47).
جاء في سير أعلام النبلاء وغيره في ترجمة الإمام الكبير، الزاهد العابد، الحجة الثقة محمد بن المنكدر: "أنه بينا هو ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله، وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فما زال يسكته حتى سكت، فقال له: ما الذي أبكاك؟ قال: مرت بي آية، قال: وما هي؟ قال: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}، فبكى أبو حازم، وعاد محمد للبكاء حتى اشتد بكاؤهما.. فقال أهل ابن المنكدر.. جئنا بك لتسكته فزدته بكاء".
فهذه الآية آية تستحق أن نقف عندها طويلا ونبكي لذكرها كثيرا، فإن المواقف التي يمكن أن يبدو للعبد فيها ما لم يكن يحتسب كثيرة أهمها عند الموت، فقد يأتي أجلك فجأة وأنت في قلب المعصية وكم من أناس تعرضوا لهذا وشهدناهم، وفي القبر، وفي العرصات، وموقف القيام بين يدي الله، وعند الميزان وعلى الصراط وغيرها من المواقف العصيبة.
إن الله لم يدع للإنسان شيئا عمله إلا وسطره عليه وكتبه، وأحصاه وأثبته {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق:16ـ18)، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}(الزخرف:80)، {هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(الجاثية:29).
وفي يوم القيامة الذي حذر القرآن من أهواله، وفي القبر حين يسأله الملكان من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ هل يثبته الله فيقول ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد عليه الصلاة والسلام؟ فينادي مناد أن صدق عبدي، فاكتبوا كتابه في عليين، وافسحوا له في قبره مد البصر، وافرشوا له من الجنة، ويقال نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه، وينادي رب أقم الساعة رب أقم الساعة .
أما من تخذله أعماله ويبدو له ما لم يكن يحتسب، وتكون الإجابة "هاه هاه لا أدري".. فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمرزبة، وينادى أن كذب، فاجعلوا كتابه في سجين، وافتحوا له بابا إلى النار، وافرشوه من النار، ويضم عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.. وينادي رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة.
وأما في يوم القيامة.. يوم الهول الشديد والموقف العصيب والخوف الرهيب.. فعندها تكون المفاجآت التي تعصف بعقل الرشيد وقلب اللبيب.
عند تطاير الصحف سيبدو للناس ما لم يكونوا يحتسبون، وعندما يعرف الإنسان حقيقة ونتيجة عمله.. هل ستمتد يمينه لتأخذ الكتاب، أم أن كتابه كتاب سوء فيأخذه بشماله من وراء ظهره.
فهذا كتابك الذي سطرته بأعمالك، قال تعالى {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}(الإسراء:13ـ14).. {ووُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}(الكهف:49).
وكل عمل عملته سيوزن وعندها ستبدو الخبيئات، وتنفضح المستورات، وتبلى السرائر، وتظهر مكنونات الضمائر، وسيبدو لأناس ما لم يكونو يحتسبون، ويؤتى بالميزان، ويؤتى بالعبد ويؤتى بأعماله لتوزن.
وفي حديث ثوبان رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا، أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَم قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)(صحيح ابن ماجة).
وفي الحديث الصحيح: (يُصاحُ برجلٍ من أمَّتي يومَ القيامةِ على رءوسِ الخلائقِ ، فيُنشَرُ لَهُ تسعةٌ وَتِسْعونَ سجلًّا ، كلُّ سجلٍّ مدَّ البصرِ ، ثمَّ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ : هل تُنكرُ من هذا شيئًا ؟ فيقولُ : لا ، يا ربِّ ، فيقولُ : أظلمَتكَ كتبتي الحافظونَ ؟ ثمَّ يقولُ : ألَكَ عن ذلكَ حسنةٌ ؟ فيهابُ الرَّجلُ ، فيقولُ : لا ، فيقولُ : بلَى ، إنَّ لَكَ عندَنا حسَناتٍ ، وإنَّهُ لا ظُلمَ عليكَ اليومَ ، فتُخرَجُ لَهُ بطاقةٌ فيها : أشهدُ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وأنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ ، قالَ : فَيقولُ : يا ربِّ ما هذِهِ البطاقةُ ، معَ هذِهِ السِّجلَّاتِ ؟ فيقولُ : إنَّكَ لا تُظلَمُ ، فتوضَعُ السِّجلَّاتُ في كفَّةٍ ، والبطاقةُ في كفَّةٍ ، فَطاشتِ السِّجلَّاتُ ، وثقُلتِ البطاقةُ).
وعلى الجانب أخر هناك رجل أعطى صدقةٌ في جوف ليل، دمعةٌ في غفلة وخلوة، آيةٌ علَّمتها لله، مسجدٌ لله بنيته، بئر لله حفرته، كلمة حق لله قلتها، دعوة مستجابة رفعتها، كفالة يتيم، أو سرورٌ على قلب مسلم أدخلته، فإذا كان يوم القيامة بدا لهم من الله من الأجر والثواب والرحمة مالم يكونوا يحتسبون.
اقرأ أيضا:
8فضائل للنهي عن المنكر .. سفينة المجتمع للنجاة ودليل خيرية الأمة الإسلامية ..تكفير للذنوب ومفتاح عداد الحسنات