من المواقف الجميلة بل الرائعة ذات الفوائد المتعددة ما جاء من موقف عروة بن مسعود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وهذا الحديث الذي دار بين الرسول وعروة بن مسعود الثقفي حوار طويل سجله التاريخ بأحرف من نور لما له من دلالات كثيرة نقتصر في هذه السطور على بعضها..
عروة بن مسعود يأتي النبي:
فقد أتى عروة بن مسعود وهو في هذا الوقت كافرًا لكن له منزلة في قريش فطالبهم بأن يذهب ليتفاوض مع الرسول أثناء صلح الحديبية وقال لهم: (ألستُ منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى. قال: ألستم مني بمنزلة الوالد؟ قالوا: بلى، قال: هل تتهمونني؟ قالوا: لا، قال: فدعوني آته وقد عرض عليكم خطة رشد).
حوار عروة بن مسعود مع رسول الله:
فلما ذهب عروة لرسول الله دار حوار طويل جدًا مع الرسول في محضر الصحابة والحوار جاء في حديث رواه البخاري وأحمد في مسنده عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: ... فأتاه أي عروة بن مسعود ـ فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه... الحديث.
تبجيل الصحابة لرسول الله:
وجاء في هذا الحديث أيضا وصف عروة بن مسعود لحال الصحابة مع رسول الله بقوله: "فَوَاللَّهِ ما تَنَخَّمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نُخَامَةً إلَّا وقَعَتْ في كَفِّ رَجُلٍ منهمْ، فَدَلَكَ بهَا وجْهَهُ وجِلْدَهُ، وإذَا أمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أمْرَهُ، وإذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ، وإذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وما يُحِدُّونَ إلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا له.."
وهذا المنظر وتلك الحال أثارت فضول عروة بن مسعود الذي مر على الأمراء والملوك فلم ير مثل هذا التعظيم فهو يبجلونه فهذا رسول الله بين صحابته لو تنخم ابتدروا نخامته وإذا توضأ يتقاتلون على وضوئه وإذا تكلم سمعوا له وأنصتوا ولا ترتفع أصواتهم بحضرته تعظيما له وإجلالاً.
هذا المشهد استرعى انتباه عروة وحكاه لقومه حين رجع إليهم وهو ما يدل على كمال تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
جواز سب المشركين:
وقد تعددت كلمات العلماء في شتم ابي بكر لعروة حين قال عروة للرسول: "والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك" وهذا معناه أن يعرض بالصحابة ويصفهم بالجبن ولتخاذل في نصرة رسول الله وهنا قال أبو بكر كلمته التي توقف عنده العلماء كثير وهي قوله: "امصص ببظر اللات" وهذا سب قبيح وكلمة إهانة .. والسؤال الذي يسأل كيف تكلم أبو بكر وهو المعروف بأدبه وعفة لسانه بهذه الكلمة في حضرة رسول الله؟ وهذ شبهة قديمة رد عليها العلماء وبينوا وجهها يقول الحافظ في الفتح: وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك.
وقد ذكرت الأمانة العلمية لإسلام ويب الرد على هذه الشبهة وذكرت كلاما كثيرا منه ما قاله ابن النمير في قول أبي بكر: تخسيس للعدو، وتكذيبهم، وتعريض بإلزامهم من قولهم إن اللات بنت الله ـ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ بأنها لو كانت بنتا لكان لها ما يكون للإناث. اهـ. وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: وفي قول الصديق لعروة (امصص بظر اللات) دليل على جواز التصريح باسم العورة إذا كان فيه مصلحة تقتضيها تلك الحال.
وفي هذا السياق قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فمتى ظلم المخاطب لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن. اهـ. وعليه، فإن كان الموقف يستدعي التصريح بمثل هذا اللفظ إيثارا للمصلحة ودفعاً للمفسدة فلا حرج في ذلك، ولا تعارض بينه وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بطعان ولا بلعان ولا الفاحش البذئ. بدليل قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} (148) سورة النساء وأيضاً لو كان فيه مخالفة لنهاه النبي عن ذلك بل أقره وهو صلى الله عليه وسلم لا يقر على باطل