الرضاعة وأثرها على السلوك (الخوف عند نبي الله موسى)
بقلم |
م. وليد متولى |
السبت 17 فبراير 2024 - 01:28 م
تعتبر الوراثة والبيئة من العوامل الهامة في تكوين سلوك الإنسان بجانب التعليم وما يدفع إليه من تزكية النفس.. ولكننا في حديثنا الآن بصدد عامل ينتمي إليها، ولا يقل في أهميته عنها في التأثير على سلوك الإنسان.. هذا العامل يرتبط بالإنسان منذ اللحظة الأولى في حياته، وقد أكدت البحوث والدراساتعلى ما يضيفه هذا العامل بجانب عملية التغذية والنمو من الإشباع بالحنان والحب والدفء والعطف، وهي أمور غاية في الأهمية في حياة الطفل؛ لكي يكون إنسانا سويا في حياته مع نفسه ومع المجتمع من حوله.
وهذا العامل يتمثل في الرضاعة الطبيعية..
ولهذا أشار القرآن الكريم إلى الرضاعة أكثر من مرة لأهميتها وأثرها في حياة الإنسان.
ونحن هنا نتناول بُعدا آخر من تأثير الرضاعة ألا وهو التأثير على سلوك الإنسان، وقد اتضح هذا البعد من خلال دلالات بعض آيات القرآن المجيد المتناولة لقصة سيدنا موسى عليه السلام، والمتحدثة عن خوف موسى عليه السلام في بعض المواقف التي مرت به مثل:{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ}[القصص:18]. {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
فدلالات هذه الآيات وأمثالها مع بعضها البعض قد بينت أن هذا الخوف الذي ورد عن سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام قد كان داخلا على طبعهما بتفاوت في الدرجة بينهما وقد يكون منشؤه الرضاعة، وما قبلها من دم الأم بما يحمله كل منهما من آثار الخوف في مرحلة الحمل. مما توضحه لنا آية إرضاع موسى عليه السلام، والذي كان يكبُره أخوه هارون عليه السلام بعام.. وما أصبحت عليه أم موسى من خوف شديد وهلع على طفلهاالرضيع الذي وضعته في تابوت، وألقت به في اليم استجابة لوحي الله تعالى إليها عندما خافت عليه من الذبح من قِبَل فرعون وجنوده..
وقد ترتب على ذلك الخوف الشديد وجود تأثيرات في لبنها ـ أي تكون بعض المركبات الناشئة من أثر الخوف والمعبرة عنه ـ ولا يخفى علينا ما صارت إليه الأبحاث الطبية في إثبات ما للنفس وانفعالاتها من أثر واضح على الجسم كأمراض الضغط، والقرحة، والحمل الكاذب، وغيرها.
فكل هذا الخوف الذي أصاب أم موسى امتلأت به نفس وجسم سيدنا موسى عليه السلام في ارتضاعه من أمه على جوع شديد منذ ألقته في التابوت وحتى احتوته في صدرها في قصر فرعون كمرضعة له، فالخوف هنا المؤثر في الرضاعة خوف يقيني، وذلك غير الخوف الذي انتابها أثناء الحمل فهو خوف ظني لأنها كانت لا تعلم على وجه التحديد هل الجنين ذكر أم أنثى. وعودا إلى دلالات الآيات القرآنية المتحدثة في هذا الشأن والتي أفاضت علينا بمعلومات كانت سببا في نتيجتين:
أولهما: رؤية جديدة بجانب ما أثاره السادة المفسرون الكرام حول أسباب خوف سيدنا موسى عليه السلام وتعليلاتهم لذلك. وهذه الرؤية تبين أن هذا الخوف كان خارجا عن إرادته وأنه ليس له دخل فيه ولم يؤاخذه الله عليه، فهو أعلم به وهو اللطيف الخبير.
ثانيهما: إظهار ما للرضاعة من أثر بالغ في حياة الإنسان يمتد معه خلال مراحل عمره المختلفة مما يجعلنا نوليها العناية الكافية ابتداء من مرحلة الحمل، ولذلك يجب على الرجل أن يراعي زوجته بالحب والحنان والاحترام فأثر ذلك لا ينصب على حياتهما فقط، بل يترجم أثر ذلك في أولاده، وأن تُراعي الأم حالتها النفسية أثناء قيامها بهذه المهمة الجليلة مهمة الأمومة، فلاتكون ثائرة، أو غاضبة، أو حزينة، أو قلقة... إلخ من الأمور التي قد تؤثر حتى على كمية إفراز اللبن أوتؤثر تأثيرا سيئا على نفسية الطفل وجسمه.
ومما يدعم هذه الدلالات موقفان وردا في سورة الأعراف وهما موقف سؤال سيدنا موسى عليهالسلام لله عز وجل بأن يمكنه من رؤيته، وموقف الرجفة التي أصابت السبعين رجلا الذين كانوا مع سيدنا موسى عليه السلام في الميقات الذي حدده الله تعالى له ولمن معه ليستغفروا لقومهم ويعتذروا عن عبادة بعض قومهم للعجل.
فبعد موقف طلب الرؤية لم تذكرآيات تعبر عن خـوف سیدنا موسى عليه السلام بعد أن تجلى ربه للجبل وجعله دكا، بل خر موسى صعقا إذقوبل الخوف الأول – الذي انتقل إليه من أمه – بما هو أشد وهو الصعق.
وهذا يجعلنا نتصور أن الخوف كان سببا في تكوين مواد في الدم انتقلت من أم موسى إلى موسى عليه السلام، وأن هذه الموادكان لها تأثير نفسي عليه، أي بدأت بتأثير نفسي جسمي عند أمه ثم جسمي نفسي عنده.
ويدعم هذه الدلالات عندنا ما جاء عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما عندما سأله سعيد بن جبير عن {وفتناك فتونا} [طه:40]،فكان من قوله: «فحملت أم موسى بهارون عليه السلام في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان، فولدته علانية آمنة حتى إذا كان العام المقـبـل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن ـ وذلك من الفتون يا ابن جبير - مما دخل عليهفي بطن أمه مما يراد به من القتل -» (تاريخ الطبري ج 1 ص٢٣٥). وكذلك قول الإمام علي رضى الله عنه: «توقَّوا على أولادكم من لبن البغي من النساء والمجنونة،فإن اللبن يُعدي» (الأديب على محمد في كتاب نهج التربية عند الإمام على ص١٦٢).وذلك عند طلب مرضع للطفل غير أمه.
وفي الختام يظهر لنا اهتمام الإسلام بأمر الرضاعة وطلب توفير كافة الظروف المناسبة للحامل والمرضع من الناحية الاقتصادية والنفسيةوالاجتماعية كما يتضح ذلك من آيات الرضاعةفي القرآن الكريم وأحكامها.