أنس محمد
على الرغم من ثقل الأزمات والنوائب على النفس، وأثرها في إصابة الإنسان باليأس والإحباط، وربما التفكير في الانتحار، إلا أن المثل القائل : "الضربة التي لا تقصم ظهرك تقويك" خير دليل على ما الأزمات من فوائد تمنح الإنسان الخبرة والقوة والمناعة في مواجهة الشدائد.
الأزمة لا تعني فقط الشدة والضيق والضنك وشظف العيش وقسوة الحياة، بل تعني أيضا إذا أحسن الإنسان إدارتها، مجموعة من الفوائد والمنافع والمصالح.
وربما يمر الإنسان بطور اليأس من الحياة حال اشتدت عليه الأزمة، ويتصور أنه لا يمكن أن يخرج من أزمته سليما معافا، ولكن أثبتت التجارب أن مواجهة الازمة والنجاح في مواجهتها، هو إيذان بميلاد جديد للإنسان، خاصة إذا كان مؤمنا بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن الله سبحانه وتعالى هو القادر على أن ينجيه، ويكتب له النجاح في مواجهة هذا البلاء، وخير دليل على ذلك تجارب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، في بداية الدعوة الإسلامية، وخاصة حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم في الغار بصحبة أبي بكر محاصرين من المشركين، ليصيب أبا بكر بعض الخوف فيقول للنبي : " يارسول لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا".
فيرد النبي صلى الله عليه وسلم رد الواثق في نصر الله، وحفظه وعنايته، قائلا: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا".
كيف تمنح نفسك القوة بعد الأزمة؟
1- إعادة اكتشاف الإنسان قدراته الكامنة : قد يحسب الإنسان أنه ضعيف، لا يتحمل المشاق، ويوطن نفسه على ذلك، إلا أن مروره بالأزمات، يوقفه على قدرات كامنة في ذاته، لولا ما تعرض له من هذه الأزمة، لما اهتدى إلى كوامن هذه القوى في ذاته.
ومن المواقف الدالة على ذلك، ما كان من أبي بصير ، حينما فر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، والتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذًا لشرط المعاهدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك.
فقال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق، فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. فانطلق معهما.
فهذه أزمة شديدة تعرض لها أبو بصير، إلا أنه استطاع أن يقتل أحد الرجلين، وفر الثاني خوفًا منه، ليلحق هذا الأخير برسول الله صلى الله عليه وسلم شاكيا له ما حدث من أبي بصير.
ولما علم أبو بصير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرده للمرة الثانية إلى مكة، لم يدخل المدينة، وعسكر بين مكة والمدينة، ليكون خارج النطاق الجغرافي للاتفاق، ولحق به كل من كان مثله ممن يريد الإسلام وهو من قريش، فاجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز. ولا شك أن أبا بصير فوجيء من نفسه بهذه القوة العقلية والتخطيطية والجسدية، والسبب في ذلك تعرضه لهذه الأزمة، وإحسانه إدارتها.
2-تغير معادلات وموازين القوى : لو استطاع الإنسان في أثناء تعرضه للأزمة أن يخرج منها غير مكسور، فإن ذلك في حد ذاته سيكون انتصارا له، وخصما من رصيد قوى خصومه الذين افتعلوا معه هذه الأزمة، ومما يدل على ذلك من السيرة، أن المسلمين في المدينة بعد تعرضهم لغزوة الأحزاب، وخروجهم منها دون انكسار، تغيرت بعدها موازين القوى لصالحهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم».
فقد كشفت هذه الأزمة أن أية قوة من قوات العرب لا تستطيع استئصال القوة الصغيرة التي تنمو في المدينة، لأن العرب لم تكن تستطيع أن تأتي بجمع أقوى مما أتت به في الأحزاب.
3- التفكير في استراتيجيات جديدة : وشاهد ذلك من السيرة، ما أشار به الحباب بن المنذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، من تغوير الآبار من جهة قريش، وإبقاء بئر واحدة يشرب منها المسلمون وحدهم، وهذا لا شك ابتكار جديد، واستخدام تضاريس المكان لصالح المسلمين. فالمشركون مطمئنون إلى وجود عدة آبار صالحة للشرب، لكنهم فوجئوا وقت شدة العطش أثتاء المعركة أن هذه الآبار جميعا قد غورت، وأنهم ليس معه مدد من الماء إلا ما كان في قربهم وأسقيتهم، وكفى بذلك عاملا نفسيا وبدنيا، يحسم المعركة لصالح المسلمين.
ولولا شح عتاد المسلمين وأسلحتهم وعددهم لما فكروا في الاستفادة من تضاريس أرض المعركة، واستكشاف أي سبب ليكون جزءا من العدة التي تعوزهم.
4- تثبيت الفكرة وإقرارها ونشرها : وتلك الفائدة يمكن تلمسها من قصة أصحاب الأخدود، حيث ضاق الأمر بالغلام، حينما واجهه الملك بكامل قوته وجيشه ودولته، وأصر على قتله، فجعل الغلام من هذه الأزمة سببًا في نشر فكرة الإيمان بالله الأحد في أوساط المجتمع، فقد قال الغلام للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، وأخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه، في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأُتِيَ الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس.
5- من فوائد الأزمات أنها تجعل الفريق الذي يدير الأزمة في حاجة إلى استحداث وظائف، وإناطة مهام بالبعض ، هي من الضرورة بمكان، كي يستطيع صانع القرار اتخاذ القرارات المناسبة، وهذا يحتاج منه أن يكون لديه أنظمة إنذارات مبكرة، لكي يأخذ قرارات على ضوئها، ويمكننا أن نلحظ ذلك أثناء هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اختبأ في غار ( ثور) لقربه من مكة، ليتمكن من الوصول إلى ما تفكر فيه قريش وما تتخذ من خطط للحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا اتخذ شابًا، هو عبد الله بن أبي بكر ليأتي له بأخبار القوم، جاء في وصفه” غلام شاب ثقف لقن، يدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام".
اقرأ أيضا:
كلما رأيت الخير.. أسرع الخطى إليه