ابتلاء عروة بن الزبير.. قصة من بين عشرات القصص التي وردت في سير الأنبياء والصحابة والتابعين ليستلهم منها المسلم معنى الصبر على الابتلاء، في ظل هذه الظروف الصعبة التي نعاني منها، فقد اختص الله سبحانه وتعالى عباده المخلصين بالابتلاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ ، قَالَ: ( الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) .
ما هو البلاء؟
والبلاء في الحديث عام ، يشمل كل أنواع البلاء ، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، والابتلاء بالمرض والطاعون، ويشمل الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات ، ويشمل الابتلاء بتولي المسؤوليات ، كما يشمل الابتلاء بكثرة الفرق والبدع والضلالات ، وكثرة الشهوات والفجور، وانتشار الفساد في الأرض، ونحو ذلك .
وليس البلاء مقصورا على المرض أو الفقر أو نحو ذلك ، قال تعالى : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ) الأنبياء/ 35 ، قال الطبري رحمه الله :
" يقول تعالى ذكره : ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به ".
وعروة بن الزبير أحد التابعين، وهو أحد أبناء الصحابي الجليل الزبير بن العوام رضي الله عنه ( حواري الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأمه أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ( ذات النطاقين ) وخالته عائشة بنت أبي بكر رضي الله ( أم المؤمنين زوج رسول الله عليه الصلاة والسلام ) وأخوه الأكبر الصحابي عبدالله بن الزبير.
طلب الخليفة الوليد بن عبدالملك عروة بن الزبير لزيارته في دمشق مقر الخلافة الأموية، فتجهز عروة للسفر من المدينة النبوية إلى دمشق واستعان بالله وأخذ أحد أولاده معه ( وقد كان أحب ابناؤه السبعة إليه ) وتوجه إلى الشام، فأصيب في الطريق بمرض في قدمه أخذ يشتد ويشتد حتى أنه دخل دمشق محمولاً لم يعد لديه قدرة على المشي.
رأي الأطباء في حالته
انزعج الخلفية حينما رأي عروة بن الزبير يدخل عليه دمشق بهذه الصورة فجمع له أمهر الأطباء لمعالجته، فاجتمع الأطباء وقرروا أن به الآكلة ( ما تسمى في عصرنا هذا الغرغرينا ) وليس هناك من علاج إلا بتر رجله من الساق، فأخبر الخليفةُ عروةَ بقرار الأطباء، فلم يزد على أن قال ( اللهم لك الحمد) .
اجتمع الأطباء على عروة وقالوا : اشرب المرقد . فلم يفعل وكره أن يفقد عضواً من جسمه دون أن يشعر به . قالوا : فاشرب كاساً من الخمر حتى تفقد شعورك . فأبى مستنكراً ذلك، وقال : كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه . قالوا : فكيف نفعل بك إذاً ؟.
قال عروة : دعوني أصلي فإذا أنا قمت للصلاة فشأنكم وما تريدون !! ( وقد كان رحمه الله إذا قام يصلي سهى عن كل ما حوله وتعلق قلبه بالله تعالى ) . فقام يصلي وتركوه حتى سجد فكشفوا عن ساقه وأعملوا مباضعهم في اللحم حتى وصلوا العظم فأخذوا المنشار وأعملوه في العظم حتى بتروا ساقه وفصلوها عن جسده وهو ساجد لم يحرك ساكناً، وكان نزيف الدم غزيراً فأحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه ليقف نزيف الدم، فلم يحتمل حرارة الزيت، فأغمي عليه .
بعد أن أفاق عروة، أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة بن الزبير كان يشاهد خيول الخليفة، وقد رفسه أحد الخيول فقضى عليه وصعدت روحه إلى بارئها.
اغتم الخليفة كثيراً من هذه الأحداث المتتابعة على ضيفه، واحتار كيف يوصل له الخبر المؤلم عن انتهاء بتر ساقه، ثم كيف يوصل له خبر موت أحب أبنائه إليه .
وترك الخلفية عروة بن الزبير حتى أفاق، فاقترب إليه وقال : أحسن الله عزاءك في رجلك . فقال عروة : اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون . قال الخليفة : وأحسن الله عزاءك في ابنك . فقال عروة : اللهم لك الحمد وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، أعطاني سبعة وأخذ واحداً، وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحداً، إن ابتلى فطالما عافا، وإن أخذ فطالما أعطى، وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة .
ثم قدموا له طستاً فيه ساقه وقدمه المبتورة قال : إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم.
اقرأ أيضا:
مواعظ مبكية بين عمر بن عبد العزيز والخليفة سليمانقصة الشيخ
بدأ عروة رحمه الله يعود نفسه على السير متوكئاً على عصى، فدخل ذات مرة مجلس الخليفة، فوجد في مجلس الخليفة شيخاً طاعناً في السن مهشم الوجه أعمى البصر، فقال الخليفة : يا عروة سل هذا الشيخ عن قصته . قال عروة : ما قصتك يا شيخ ؟ قال الشيخ : يا عروة اعلم أني بت ذات ليلة في وادٍ، وليس في ذلك الوادي أغنى مني ولا أكثر مني مالاً وحلالاً وعيالاً، فأتانا السيل بالليل فأخذ عيالي ومالي وحلالي، وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفل صغير وبعير واحد، فهرب البعير فأردت اللحاق به، فلم أبتعد كثيراً حتى سمعت خلفي صراخ الطفل فالتفتُ فإذا برأس الطفل في فم الذئب فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك فقد مزقه الذئب بأنيابه، فعدت لألحق بالبعير فضربني بخفه على وجهي، فهشم وجهي وأعمى بصري !!! .
قال عروة : وما تقول يا شيخ بعد هذا ؟
فقال الشيخ : أقول الله لك الحمد ترك لي قلباً عامراً ولساناً ذاكراً .
ملامح شخصية عروة بن الزبير
تربى عروة بين يدي الزبير بن العوام، وأسماء بنت أبي بكر، وتفقه على يد أم المؤمنين عائشة، وأخذ الحديث عن أصحاب رسول الله أن يكون مثالاً حيًا في عبادته وزهده وورعه وأخلاقه، وكان عروة بن الزبير كذلك، فلقد أثر عنه أنه كان يصوم الدهر. وكان يقرأ كل يوم ربع الختمة في المصحف ويقوم الليل، فما تركه إلا ليلة قطعت رجله.
وكان رحمه الله مؤثرًا للعلم، ورضا الله على أي شيء آخر من أمور الدنيا، ولقد اجتمع عبد الله بن الزبير، وأخوه عروة بن الزبير، وأخوهما مصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فما لبث أحدهم أن قال: لِيَتَمَنَّ كلّ منَّا ما يحبّ، فانْطلقَت أخيِلَتُهم ترحّل في عالم الغيب الرَّحل، ومضَتْ أحلامهم تطوف في رياض الأماني الخضر، ثمَّ قال عبد الله بن الزبير: أمنيَّتي أن أملِكَ الحجاز، وأن أنال الخلافة، وقال أخوه مصعب: أما أنا فأتمنَّى أن أملِك العراقَيْن، وألاّ يُنازعني فيهما منازع، وقال عبد الملك بن مروان: إذا كنتما تقْنعان بذلك، فأنا لا أقْنعُ إلا أنْ أملكَ الأرض كلّه! وأن أنال الخلافة بعد معاوية بن أبي سفيان، مَنْ بقيَ؟ عروَة بن الزّبير، وسكت عروة بن الزبير، فلم يقل شيئًا، فالْتفتوا إليه، وقالوا: وأنت ماذا تتمنّى يا عروة؟ قال: بارك الله لكم فيما تمنَّيْتم من أمر دنياكم، أما أنا فأتمنَّى أن أكون عالمًا عاملاً يأخذوا الناس عنِّي كتاب ربّهم وسنَّة نبيِّهم وأحكام دينهم، وأن أفوز في الآخرة بِرِضا الله عز وجل، وأن أحظى بِجَنّته.
ويُعرف عن عروة بن الزبير أنه من أسخياء الناس؛ بل كان أسخاهم يدًا، سمحًا فيما يعطيه للناس، ومما أثر عن جوده أنه كان له بستان من أعظم بساتين المدينة، عذب المياه، ظليل الأشجار، باسق النخيل... وكان يسور بستانه طوال العام؛ لحماية أشجاره من أذى الماشية وعبث الصبية، حتى إذا آن أوان الرطب وأينعت الثمار وطابت، واشتهتها النفوس... كسر حائط بستانه في أكثر من جهة ليجيز للناس دخوله... فكانوا يدخلونه، ويأكلون من ثمره ما لذ لهم الأكل، ويحملون منه ما طاب لهم الحمل.
توفي عروة بن الزبير سنة 94 هـ عن عمر يناهز السبعين عامًا.