أسوأ ما يمكن أن نفعله في أنفسنا هو أن نقسمها نصفين، نعم، نقسمها نصفين. وغالباً فإن هذين النصفين لا يعرفان بعضهما البعض، نصف (جيد)، ونصف سيئ.
بمعنى، أن بي كذا وكذا من أشياء وصفات جميلة، وبي كذا وكذا من أشياء وصفات سيئة، وبالطبع فإن هذا التقسيم ليس له أي أساس غير رؤيتك الشخصية لنفسك واستقبالك لها، والقياس الخائب جداً على غيرك من الناس..
من قال يا سيدي إن هذا جيد، وذاك سيئ؟
من الذي افترض أن هذا أحسن، وذاك أسوأ؟
من الذي افترض أنك حينما تكشر فإنك سيئ، وحينما تضحك فإنك جيد؟
من قال إنك حينما تقول (لا) تكون (قليل الأدب)، وحينما تقول نعم تكون مؤدباً؟
من قال إن تعبيرك عن مشاعرك شيء يدعو للخجل؟
من قال إن الفشل عيب؟ والضعف حرام؟ والخطأ مرفوض؟ والتقصير مصيبة؟
ومن الذي قال كذلك إن النجاح الدائم المستمر كالقطار الذي لا يتوقف هو شيء جيد وحسن؟
ومن الذي افترض أن الشجاعة لمدة خمس وعشرين ساعة يومياً تكون بطولة؟
ومن الذي افترض أن الصبر عشرة أيام أسبوعياً يكون تحملاً؟
أو أن الصوت المنخفض لمدة ثلاثمائة وسبعين يوماً في السنة يكون أدباً؟
من ومن ومن؟ غيرك أنت، وبعض الذين ظلموا أنفسهم، وفكروا بنفس طريقتك، نعم، ظلموا أنفسهم، كما ظلمتها تماماً.
تعال معي في رحلة قصيرة، ونرجع بعدها هنا مرة أخرى...
اقرأ أيضا:
إشكالية العلاقة بين الأبناء والآباء.. من يربي من؟! هل تدري ما هو أول شعور يشعر به الطفل الصغير عند ولادته؟
فكر قليلاً، تصور كائناً رقيقاً كان يحيا في مكان دافئ لمدة تسعة أشهر، يأتي له الطعام والشراب جاهزاً، حتى الأكسجين يصل إلى رئتيه دون أي مجهود أو تعب، حياة رغدة هنيئة، وكأنه فى جنة آدم، لكن فجأة، تنهار عليه الدنيا من حوله، ويتزلزل العالم، وتنهمر شلالات المياه من كل ناحية، ويطرد من جنته كما طرد منها أبواه من قبل.
بماذا سيشعر؟
سينتابه شعور صعب للغاية، اسمه (الرعب).
فقدان مفاجئ لكل الدفء والاحتواء والنعيم، ونزول مؤلم إلى الضعف والاحتياج والفناء، يجد حوله عمالقة، وأيدي، ووجوهًا، وعطشًا، وجوعًا، بماذا سيشعر غير (الرعب)؟
يحاول بعدها طفلنا المسكين خلال الأيام والشهور الأولى من عمره أن يفهم العالم، ويستوعب الدنيا، ويضع معنى للأشخاص والأحداث، ولا يكون أمامه وقتها غير طريقة بسيطة وبدائية جداً فى التفكير اسمها (الشطر) أو (التقسيم) Splitting، فأمام أية خبرة، أو شخص، أو موقف، يسأل نفسه: هل هذا جيد أم سيئ؟ جيد فأطمئن له؟ أم سيئ فآخذ حذري منه وأحتاط له؟ وهكذا، ويمارس هذه الطريقة في الاستقبال مع كل وأي أحد، لدرجة أنه في ذلك الوقت يكون لديه نسختان مختلفتان من أمه نفسها، نسخة الأم الجيدة، التي يجدها وقت أن يحتاجها، ترضعه وتشبعه وتنيًمه، ونسخة الأم السيئة، التي تكون أحياناً مشغولة وغير متاحة وغير مهتمة.
ليس هذا فقط، . بل إنه يكون لديه أيضاً نسختان من نفسه، نسخة جيدة سعيدة شبعانة راضية، ونسخة سيئة محرومة غضبانة ناقمة.
ويظل صاحبنا هكذا لمدة ستة شهور كاملة، حتى يبدأ – بفعل عوامل النمو النفسي والعصبي وغيرها - في استيعاب أن الأم السيئة هي نفسها الأم الجيدة، كائن واحد اسمه (الأم) له حالتان مختلفتان (وربما أكثر)، وأنه هو أيضاً كائن واحد به كل شيء، به هذا وذاك، به ما كان يسميه (جيداً)، وبه ما كان يسميه (سيئاً)، وأنه في الحقيقة ليس هناك (جيد) و(سيئ)، لكن هناك (واحدا صحيحا)، أكبر وأسمى وأوسع من أي تقسيمات بدائية.
لنعد أدراجنا الآن.. كم عمرك النفسي إذن؟ هل اكتشفت أي شيء؟
ولو لم تكتشف، فلتفعل الآن معي .
هناك احتمال كبير أن يكون ما تسميه (سيئاً) في نفسك يكون في الحقيقة أفضل ما فيك، والعكس بالعكس، وهناك احتمال أن يكون ما تراه وما تسميه (جيداً) في غيرك هو عنده أسوأ ما فيه.. والعكس بالعكس أيضاً.
هناك احتمال أن تكون قد قسمت نفسك إلى آلاف الأجزاء،
ولست راضياً عن أي جزء منها، وأخطر ما في لعبة التقسيم هذه، هو أنك تقبل من نفسك ما تسميه (جيداً)، وترفض منها ما تسميه (سيئاً)، أي تقبل جزءاً من نفسك، وترفض جزءاً أو أجزاء أخرى، وتتشاجر مع نفسك طول عمرك، وتصبح كمن أصابه (التهاب) في يده مثلاً، فبدلاً من أن يصدق ويستوعب ويقبل أنه موجود حتى يستطيع علاجه وتغييره، يقوم بقطع يده، هكذا بكل بساطة.
وتقطع كل يوم جزءاً من نفسك، وتستغني كل ليلة عن جزء منها، حتى ينسى (بعضُك) (بعضَك)، ويكره بعضُك بعضَك، ويقسو بعضُك على بعضِك.
والأصعب من ذلك، أن تفعل هذا أ يضًا مع غيرك،
وتقسم الناس إلى نصفين، هذا ملاك لا يخطئ، وذاك شيطان لا يحس، لكننا لن نخوض في تفاصيل هذا الجانب الآن..
اقرأ أيضا:
هل يشابه أبناء المطلقين آباءهم ويستسهلون الطلاق؟ ما المطلوب منك الآن؟
لا شيء يا صديقي..
غير أن تكف عن تقسيم نفسك، وترى نفسك على أنها (واحد صحيح)، به كل شيء، وتتحمل ما تراه، وتقبله، لا تكرهه أو تخاف أو تهرب منه، ربما تكتشف عن نفسك شيئاً جديداً.. ربما تستطيع أن تكمل الناقص منها، بها، ربما تستطيع أن تخلط الطيبة ببعض الدهاء، تضيف للوداعة بعض الجرأة، تضع مع الخجل بعض الإقدام.
ربما تكتشف أن المثالية الحقيقية تبدأ من قبول الأجزاء التي لم تكن تقبلها في نفسك، وجمع هذه الأجزاء في كل واحد متكامل، وأن الجمال الحقيقي هو قليل من الأبيض على قليل من الأسود، بينهما كل ألوان الطيف، قليل من الوهج على قليل من الظلام، بينهما كل درجات النور، وأن الكمال الحقيقي هو التحام (فجورها) بـ (تقواها)، وتكاملهما، والتئامهما، في اتجاه (الواحد)، (الأحد)، الذي هو (الرحمن الرحيم)، والذي هو أيضاَ (المنتقم الجبار)، الذي هو (غافر الذنب وقابل التوب)، والذي هو أيضاً (شديد العقاب)، وكل هذا ليس متعاكساً أو متضاداً..
هلم الآن..
لتبدأ تلك الرحلة..
رحلة التكامل.. والالتحام.. والالتئام..
حتى تصير أخيراً، واحد صحيح!
*د. محمد طه
أستاذ الطب النفسي بجامعة المنيا (بتصرف يسير)
اقرأ أيضا:
زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟ اقرأ أيضا:
صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟ اقرأ أيضا:
أعاقب أطفالي بمنعهم من الأطعمة التي يحبونها.. هل تصرفي خاطيء؟