حَثَّ الإسلامُ على دفن الميت تكريما له، وأَجمَعَ المسلمون على أنَّ دَفن الميت ومُوَارَاةَ بَدَنِهِ فرضُ كِفَايَةٍ؛ إذا قام به بَعضٌ مِنهم أو مِن غيرهم سَقَط عن الباقين.
ومن بين الأحكام الشرعية لدفن الميت بطريقة صحيحة أنه يستحب عند الدفن الدعاءُ للميت وحل أربطة الكفن، وأن يقول واضعه: "بسم الله، وعلى ملة رسول الله -أو: على سُنّة رسول الله-"؛ لحديث عمر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا وضع الميت في القبر قال: «بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ -أو: وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ-» رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه.
وملخص ما يطلب من أجل تحقيق الدفن الشرعي هو القبر الشرعي الذي يصلح لِدَفن الميت ويكتفى فيه بحُفرةٌ تُوَارِيهِ وتَحفَظُهُ مِن الِاعتِداء عليه وتَستُره وتَكتم رائحتَه، والأصل أن يكون ذلك في شَقٍّ أو لَحْد.
ماهو الشق؟
فأمَّا الشَّق فيكون بأنْ يُعَمَّقَ في الأرض مَحَلّ الدَّفن على قَدْر قامَة الإنسان العادي الذي يَرفع يدَه فوقَه (أي مترين وربع المتر تقريبًا)، ثم يُحفَر في أرضها على قَدْر وضع الميت على جَنبه بِطُوله؛ بحيث يكون على جَنبه الأيمن وصَدرُه لِلقِبلة، ثم يُوَسَّد في قبره ويَدُه لِجَنْبِهِ، ثم تُوضَعُ اللَّبِناتُ أو الحِجارة فوق الشَّقِّ، ثم يَخرج الحافِر، ثم يُهالُ عليه التراب.
ماهو اللحد؟
وأما اللَّحْد فيكون بأنْ يَقوم الواقف داخل الحُفرة المُعَمَّقة في الأرض بحَفرِ مكانٍ في أحَد جانِبَي القبر على بُعد ثُلُثَي طُولِه مِن الأرض يَسمح بدَفن الميت فيه، ويُعَمِّقه؛ بحيث يُمكِن إرقادُ الميت فيه على الهيئة السابقة، ثم يُغطِّي الجانبَ المفتوح باللَّبِن أو الحِجارة، ثم يَخرج الحافِر ويُهِيل التراب، وهاتان الطريقتان إنما تَصلُحان في الأرض الصَّلْبة، فإن لم يَصلُح الدَّفنُ بذلك -كما هو الحال في مِصر وغيرها مِن البلاد ذات الطبيعة الأرضية الرَّخْوَة- فلا مانع مِن أنْ يَكون الدَّفنُ بطريقةٍ أخرى بشرْط أنْ تُحَقِّق المطلوب المذكور في القبر الشرعي، وهذا هو الذي دَعَا أهلَ مِصر للُّجوء إلى الدَّفن في الفَسَاقي مُنذ قُرون طويلة؛ لأنَّ أرض مِصر رَخْوَةٌ تَكثُر فيها المياه الجَوْفِيَّة ولا تَصلُح فيها طريقةُ الشَّق أو اللَّحْد، ولا حَرَجَ في ذلك شرعًا كما نَصَّ عليه جماعةٌ مِن الأئمة الفقهاء مِن محققي المذاهب الفقهية المتبوعة.
اقرأ أيضا:
حكم الرطوبة والبلل الخارج من الفرج والطهارة منها؟كيف ندخل الميت إلى القبر؟
الشافعية والحنابلة يستحبون أن يُدخَل الميت برأسه من عند رجلي القبر، ثم يُسل سلًّا رفيقًا إلى داخل القبر إذا تيسر الأمر؛ بحيث يُدفَن تِجاه القِبلة مُباشَرةً مِن غير حاجَةٍ إلى الدَّوَران به داخل القبر، لِمَا روى الإمام الشافعي في "الأم" عن ابن عـباس رضى الله عنهما قال: "سُلَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وســلم مِن قِبَلِ رأسِه".
وروى أيضًا عن عمران بن موسى: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سُلَّ مِن قِبَلِ رأسه، والناسُ بعدَ ذلك".
وروى أبو داود والبيهقي في "سننهما" عن أبي إسحاق قال: "أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من موضع رجلي الميت داخل القبر، وقال: هذا من السنة".
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم" :[وأمورُ الموتى وإدخالهم من الأمور المشهورة عندنا؛ لكثرة الموت، وحضور الأئمة، وأهل الثقة، وهو من الأمور العامة التي يُستَغنَى فيها عن الحديث، ويكون الحديث فيها كالتكلف؛ لعموم معرفة الناس بها، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار بين أظهرنا؛ ينقل العامة عن العامة لا يختلفون في ذلك: أن الميت يُسَلُّ سَلًّا] اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" : [(ويدخل قبره من عند رجليه إن كان أسهل عليهم).. وذلك أن المستحب أن يوضع رأس الميت عند رجل القبر، ثم يسل سلًّا إلى القبر؛ رُوِيَ ذلك عن ابن عمر، وأنس، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم، والنخعي، والشعبي، والشافعي].
بينما استحب الحنفية والمالكية أن يوضَع الميتُ عرضًا إلى القبلة ثم يُدخَل إلى قبره على حاله مستقبِلًا القبلة، مع نصهم على مشروعية السَّلِّ إن عَسُر إدخاله مِن قِبَل القبلة:
وعند الظاهرية: أنه يُدخَلُ بالميت كيفما أمكن من أي جهة؛ قال الإمام ابن حزم الظاهري في "المحلى" : [ويُدخل الميت القبر كيف أمكن، إما من القبلة، أو من دبر القبلة، أو من قبل رأسه أو من قبل رجليه؛ إذ لا نص في شيء من ذلك].
وهذا كله على جهة الاستحباب، والأمر كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "كُلٌّ لا بأسَ بِهِ".
ومقصود الحنفية والمالكية: التبرك بجهة القبلة في إدخال الميت، ومقصود الشافعية والحنابلة: طلب التسهيل على القائمين بالدفن وتَوَخِّي الرفق بالميت، غير أنهم جميعًا يجعلون الأمر دائرة مع اليسر والسعة والرفق بالميت وما يناسب من ذلك طبيعة الأرض.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (1/ 319): [رُوي عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي أنه قال: حدثني من رأى أهل المدينة في الزمن الأول أنهم كانوا يدخلون الميت مِنْ قِبَلِ القبلة، ثم أحدثوا السل لضعف أراضيهم بالبقيع؛ فإنها كانت أرضًا سبخة] اهـ.
ولا يخفى أن هذا الخلاف إنما يُتَصَوَّر إذا كان القبر شَقًّا أو لحدًا؛ لأن مدخل القبر يسمح بدخول الميت معترضًا، ويكون مدخل القبر حينئذٍ موازيًا لمرقد الميت، فأما إذا كانت القبور على هيئة الفساقي -كما هي الحال في قبور أهل مصر وغيرهم لطبيعة أرضهم- فإن مدخل القبر يكون أضيق من أن يدخله الميت معترضًا، كما أن المدخل لا يلزم كونه موازيًا لمرقد الميت، ولذلك لا يُتصور الخلاف في الفساقي، ويرجع الأمر إلى السَّل الذي هو مشروع عند الجميع؛ إما ابتداءًا عند الشافعية والحنابلة، وإما عند الحاجة كما هو قول الحنفية وغيرهم.
فإذا أُدخِل الميت القبر فإنه يُوضَع على شِقِّهِ الأيمن استِحبابًا، ويجب أن يُوَجَّه وَجهُهُ وصدرهُ وبطنهُ إلى القِبلة، هذا باتِّفاق الأئمة الأربعة، ويَحرُمُ تَوجيهُ الوَجهِ لغير القِبلة؛ كما هو حاصلٌ مِن بعض مَن يدفن في هذا الزمان.
كما يستحب الدعاءُ والاستغفارُ للميت بعد الفراغ من الدفن، وسؤالُ التثبيت له؛ لحديث عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، فقال: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثَبُّتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» رواه أبو داود والحاكم وصححه.