حينما يغلب عليك ضعفك، ويثقل عليك موتك، تمر بحالة من الخوف ربماتؤدي بك إلى الفزع والجنون، لولا أن تغمدنا الله برحمته سبحانه وتعالى ولطف بنا، حينما وضع لنا من محكم تنزيله عز وجل، مانستجمع به قوتنا مرة أخرى، وهون به علينا الدنيا بمصائبها، وسهل علينا الموت الذي هو أعظم المصائب، بالرجوع والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى قائلين: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
لا تقف هذه الآية القرآنية العظيمة، عند معنى واحد ولكنها تتمدد لمعان كثيرة، حينما يشتد عليك الفكر والتأمل في صعوبة الموت، وهول المصائب، والذي قد يدفع بعض ضعاف النفوس إلى الفزع وربما الكفر، فتأتي قطرات هذه الآية كالنسيم، الذي يهون عليناكل شيئ.
ماذا تقول عند الموت؟
قال الله سبحانه وتعالى : {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }البقرة156.
"إنا لله وإنا إليه راجعون" عبارة تنطقها ألسنتنا في وقت يطيش الحزن بعقولنا وقد انفطرت القلوب أسى وألمًا، وقد غيبت الغفلة عن بصيرتنا معانيها.
ولو أولينا هذه الآية وقتًا يسيرًا من التمعن والتفكر بحقيقة معناها لشفيت جروحنا وجبرت كسورنا بمدد يمددنا الله به من خلال "إنا لله وإنا إليه راجعون".
ولو تفكر المرء بهذه العبارة وهو ينطق بها عند نزول المصيبة لأدرك بل تيقن أنها تنطوي على حكمة جليلة؛ إذ أضعف ما يكون الإنسان في النوازل التي تصيبه على اختلاف أنواعها.
فعلى ماذا تحزن وأنت ملك لله؟ وذاهب لله؟ محطتك النهائية ونهاية سعيك أنك إليه راجع حيث المستقر هناك، فهذا مصير الخلائق، خالقها هو مالكها المتصرف فيها كيفما شاء وإلى كنفه وملكوته الرجوع.
فحينما يحتاج الضعيف لسند يستند إليه وقوة تنفث في روحه الثبات وقدرة التحمل ومواجهة كل ما يمر به من مصائب في أصعب الأوقات، فوقتها لا بد من مصدر قوة تستمد قوتك منه فلا تقهرك الخطوب ولا تعوقك العثرات والجراح، بل تمضي بقلب جسور ونفس راسخة لذا كان التوجيه الرباني: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
اقرأ أيضا:
حتى لا يصبح كبيت العنكبوت..كيف تبني بيتا صالحًا وتؤسسه بالتقوى؟ملجأ للمصابين
فإنا لله وإنا إليه راجعون خطاب رباني مهيب يصف بل ويبشر أولئك الذين عرفوا وأدركوا أنهم ملك لله يتصرف بهم كيفما شاء؛ فقد جاء في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أن "هذه الكلمات ملجأ للمصابين وعصمة للممْتَحنين؛ فإنها جامعة بين الإقرار بالعبودية لله، والاعتراف بالبعث والنشور، وأن الدنيا ليست آخر كل شيء"؛ فأن يعيش المصاب هذا الشعور في لحظات ضعفه ومصابه لهو سبب كاف لأن يمسح على قلبه المكلوم ويعزيه ويبث بل يبعث فيه الأمل في أشد لحظات الضعف والانكسار.
إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ تدعو إلى التفاؤل وتعني التسلية عن المصاب وتهدف إلى رفع الروح المعنوية واستقرار الحالة النفسية وهي حصن للمسلم من الوقوع في عدم الرضا بالقضاء ومنجاة له من الاعتراض على القدر .
إنها تخاطب المصاب ألا تحزن فأنت ملكٌ لله سبحانه ، وألا تتشاءم فأنت قادمٌ على الله سبحان وتعالى ومن فقدت فهو ملك لله وقادم إليه وألا تيأس وألا تستلم وألا تقعد عن العمل .
وما دام الأمر كذلك وما دام أننا وما نملك وما نحب وما نجمع : ملك لله ، فليفعل الله بنا ما يشاء وليأخذ منا ما يشاء ، ولترضى النفس ولتطمئن الروح " فإنّا إليه راجعون " .
إذن : نحن ملكٌ لله وراجعون إليه فلماذا تقتلنا الأحزان وتهلكنا !؟
لماذا يقتلنا الحزن على حبيب سبقنا إلى الله ؟!!
ولماذا يفتك بنا الحزن ونحن وما نملك : ملكٌ الله ؟!!
إذا تيقّنا أنّ من فقدناه منّا فقد سبقنا إلى الله ، وأننا وإن تأخرنا سنلحق به : فلنسعد ولنستعد.
ويأتي بعد تسليم الأمر إلى الله، حسن الجزاء نتيجة لإيمانك وبأنك عبد ومِلك لله، وتعزية نفسك والاستعانة على مصابك بيقين الرجوع لله، وتأمل عطايا الله لك على ذلك فقد ورد في تفسير هذه الآيات الكريمة: "ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، أي ثناء من الله عليهم، {وَرَحْمَةٌ} قال سعيد بن جبير: "أي: أمنة من العذاب" {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "نعم العدْلان ونعمت العلاوة" {أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} فهذان العدلان {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فهذه العلاوة".
تذكر سحرة فرعون عندما هددهم فرعون بتقطيع أرجلهم وأيديهم كيف كانت مصدر قوة وعزاء لهم في مواجهة جبروته، فقد قال تعالى على لسانهم: {قَالُوا لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، أي: "لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به {إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} أي المرجع إلى الله، وهو لا ضير أجر من أحسن عملًا، ولا يخفى عليه ما فعلت بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء"، فيقينهم بأنهم إليه راجعون كان ملاذهم من جبروت فرعون وشعور الاطمئنان الذي تملكهم بأنهم إلى الله منقلبون، فكيف يخشون بعد ذلك مصيرًا هو ملك لله وإلى الله؟
فلا يضرك دمع العين وحزن القلب فهذه رحمة يلقيها الله في قلوب عباده ولكن لا تقل ولا تفعل إلا ما يرضي الله اقتداء بنبيك المبعوث رحمة للعالمين: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا" (سنن أبي داوود)، لكن وأنت تسكب من معين الرحمة في قلبك لا تنس أن تستمد من معين القوة لتتوازن أمورك وتستقيم حياتك، وهل هناك أعظم من حقيقة أنّ ما نمر به ما هو إلا مدة يسيرة ومن ثم نرجع جميعًا إلى الله فيجتمع السابقون باللاحقين.
"إنا لله وإنا إليه راجعون" منهج تربوي وعلاج ناجع في علاج مصائبنا وأحزاننا ومداواة مرارة الفقد التي نتجرعها جرعة جرعة من كأس الحياة الذي لا ينضب من أكدار الدنيا وابتلاءاتها، علاج لن يتحقق أثره إلا أذا أخذناه بيقين سحرة فرعون فما ضرنا ما مسنا ما دام الملتقى عند الله مالك المُلك.