لماذا يظهر المرض النفسي؟ وما الذي يقوله المريض من خلال أعراضه؟ وما الذي يمنع المريض النفسي من التماثل للشفاء؟ ومن جهة أخرى، ما النفع الذي يعود على الشخص من وراء مرضه؟

هذه بعض الأسئلة التي حاولت المدرسة التحليلية لعلم النفس أن تجيب عنها.

يقول الدكتور رفعت محفوظ: (إن المرض النفسي قرار، الجنون قرار، والانتحار قرار، والاكتئاب قرار). ويقول الدكتور يحيى الرخاوي، بتصرّف: (إن المرض النفسي محاولة للتأقلم مع واقع غير مناسب؛ حيث يقع العصاب "القلق والاكتئاب ونحوه" في أول الاختيارات، يتبعه الاضطرابات الوجدانية، ويأتي الذهان كقرار نهائي بالانهيار)، وذلك بالطبع من دون إنكار للدور الذي يلعبه الاستعداد البيولوچي للكثير من الاضطرابات والأمراض النفسية.

ومن المهم أن نفهم أن هذا القرار لا يتخذه الشخص بشكل واع تماما. نعم هو محاولة للتأقلم مع الظروف المحيطة، ولكنه يحدث على مستوى اللاوعي، حتى لا يتصور أحد أن المضطرب أو المريض النفسي يدّعي المرض أو يستدعيه بوعيه أو يتمارَض.

وسأحاول ذكر بعض الأمثلة التي تيسّر فهم رؤية المدرسة التحليلية:

- واحدة من مرضى الذهان كانت أهم أعراض المرض عندها في شكل هلاوس سمعية، حيث كانت تسمع صوت إخوتها ينادون عليها باستمرار. في الحقيقة هذه المرأة تركها إخوتها منذ فترة، ولم تسمع بعد ذلك أي أخبار عنهم.
- مريض آخر كان يشكو أصواتا نسوية تعلّق عليه بشكل جنسي، وهذا المريض لم تقبل به امرأة طيلة عمره الذي جاوز الأربعين.
- وفي الطرف الآخر كانت إحدى مريضات الإكتئاب تعاني من مرض ذي درجة مقاومة عالية، وكانت هذه المرأة قد تعرضت للكثير من الإساءات، وكان الاكتئاب يمنحها مبررا لكراهية النفس ولعن العالم.
- كذلك كان صديقي المدمن يجد في إدمانه  ملجئاً للاختباء من واقعه الضاغط المزري.

اقرأ أيضا:

زوجتي طفلة كلما غضبت خاصمتني وذهبت لبيت أهلها.. ماذا أفعل؟

في مقالة سابقة تكلمت عن مراحل الصدمة النفسية،   ويكون السؤال الوجودي في مرحلة الاكتئاب هو: (هل أملك الشجاعة لتجاوز الأمر؟)، وفي بعض الحالات والأحيان أطرح على المريض في مرحلة من العلاج سؤالا: هل أنت مستعد للشفاء؟ هل لديك الشجاعة الكافية لتحقيق ذلك؟ وغالباً ما يتذكر ذلك بعد فترة من العلاج، ويفهم بالخبرة سر طرحي ذلك السؤال عليه، إذ يتطلب الشفاء أكثر من مجرد مساعدة الطبيب، وجرعات من بعض العقاقير.

إن المرض النفسي من شأنه أن يُحدث تغييرات في نمط حياة صاحبه ومن حوله، وفي كثير من الأحوال يتضمن الشفاء ليس فقط تغيير نمط الحياة، وإنما رؤية الفرد لنفسه والحياة من منظور جديد، ويعني أيضاً استعداده لتحمل مسؤولية التعافي والالتزام بها، وذلك من شأنه أن يثير من الغبار ما يثيره تنظيف غرفة ظلت مغلقة لسنوات، كما أنه أحياناً ما يكون عليه نقض نوع من المصالحة غير المعلنة مع المرض.

تحتاج المرأة والرجل اللذين تكلمت عنهما في بداية المقال أن يتقبلا حقيقة أنهما واجها الحياة بمفردهما، وأن إخوة المرأة قد تخلّوا عنها أو أن الرجل قارب الخمسين بلا زواج، وتحتاج الفتاة أن تقبل ماضيها كما كان، وأن تتعامل معه كدرس يمكنها، أن تبني عليه، وأنها ليست مذنبة، وأنه ما زال يمكنها المسير، كما يحتاج صديقي المدمن أن يعترف أمام نفسه أولاً بأن الإدمان ليس صديقه الوفي، وأنه لا جدوى من الهروب، وأنه قد لا يكون مسؤولاً عما وصل به إلى الإدمان، لكنه مسؤول عن الاستمرار فيه.

وكما يبدو، فإن الشفاء يتطلب الكثير من الشجاعة، كما نحتاج للكثير من الشجاعة لندعو آخر لمشاركتنا تجربتنا، وأن يمد يديه لمساعدتنا للمسير باتجاه الشفاء، ولذلك أولى وأهم خطوات الشفاء هي طلب المساعدة، وهذه تحتاج الكثير من الشجاعة أيضاً، حيث الشجاعة الأهم تكمن في أن نقبل حقيقة أن ضعفنا ليس عيباً نحتاج أن نداريه، هي شجاعة من نوع خاص، الشجاعة لنحمل ضعفنا لمن يساعدنا لنجبره.

خذ معك هذه الرسالة...
ليس عليك أن تختبر هذا الألم وحدك.
قد لا تكون مسؤولاً عن المرض، لكنك مسؤول عن تعافيك.
البهجة التي يجلبها الشفاء تستحق أن تتحلى بالشجاعة لتحقيقه.

د. شهاب الدين الهواري- أخصائي الطب النفسي

اقرأ أيضا:

صديقتي تريد الانتحار وأهلها رافضون ذهابها إلى طبيب نفسي .. كيف أنقذها؟

اقرأ أيضا:

أعاقب أطفالي بمنعهم من الأطعمة التي يحبونها.. هل تصرفي خاطيء؟