من أسماء الله الحسنى، اسم الله "الرحيم"، وهو ما يسميه أهل اللغة بصيغ المبالغة، وهو عطف يقتضي إحسانًا على المخلوق بما يسعده ويُصلحه. وهناك فرق بين اسم الله "الرحمن"، واسم الله "الرحيم" يوضحه العلماء بقولهم: الرحمن ذو الرحمة العامة والشاملة لكل ما هو مخلوق في هذا الكون: "قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ..."(الأنبياء: 42)، لكن الرحيم رحمة خاصة للمؤمنين "... وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً" (الأحزاب: 43)، وأهل الجنة بعد أن يدخلوها، يُقال لهم: "سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ" (يس: 58).
التوبة من الله رحمة خاصة؛ لأنها عودة إلى الله تبارك وتعالى، لذلك تجد كثيرًا ما يتكرر في القرآن الكريم "...إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ"(التوبة: 104). أن تأكل وتشرب وتتمتع بحياتك هذه رحمة من الله عامة، وأن تعبد الله في رمضان هذه رحمة خاصة من الله.
رحمتان: عامة وخاصة
إذًا هناك رحمتان، رحمة عامة، ورحمة خاصة: انظر إلى هذه الآية "... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..." هذه الآية جمعت بين الرحمن "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ" رحمة عامة.. وبين الرحيم "فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ" رحمة خاصة.
هذه الرحمة ظهرت مع الكون منذ بداية خلقه، ومع كل المخلوقات وحتى النهاية. فالله تعالى يوم خلق السماوات والأرض كتب كتابًا فوق العرش "إن رحمتي سبقت غضبي"، فإن صفة الرحمة هي الأصل، سبحانه لا يكون إلا رحيمًا، ورحمته من لوازم ذاته كعلمه وقدرته وسمعه وبصره وإحسانه فيستحيل أن يكون غير ذلك، فهو دائمًا رحيمًا وليس دائمًا غاضبًا ويقول ابن القيم: لكن الله يقول: " ... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ..."( الأعراف: 156)، ويقول: "...كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ..." (الأنعام: 12) ولم يكتب على نفسه الغضب.. وهذه رسالة هامة: لا للتشدد والعنف.
وسع كل شيء رحمةً وعلمًا، ولم يسع كل شيء غضبًا وانتقامًا؛ لذلك الرحمة كانت أحب إليه من العذاب والعفو أحب إليه من الانتقام. يقول تعالى: "وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى" (طه: 129).. لزامًا هو وقوع العذاب.. لكن ما هي هذه الكلمة؟ إن رحمتي سبقت غضبي.. لولا هذه الكلمة لكن لزامًا عقوبة لكل من أخطأ، لكن لم يحدث، لأنه كتب على نفسه الرحمة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة كطِباق ما بين السماء والأرض، أنزل منها إلى الأرض رحمه واحدة فبها يتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه من هذه الرحمة- فكيف تكون إذًا الـ 99 رحمة؟- فإذا كان يوم القيامة ضم الله هذه الرحمة إلى الـ 99 ثم بسطها على خلقه، فلا يهلك يومها إلا هالك، حتى أن إبليس ليتطاول أن تدركه رحمة الله عز وجل.
الله تعالى افتتح الكون بالرحمة، وافتتح خلق آدم بالرحمة، وافتتح القرآن بالرحمة، وافتتح كل سور القرآن بالرحمة.. ونَهى الخلق بالرحمة.. النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منكم من أحد يدخل الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته".
سمى الله الجنة بالرحمة "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ"(آل عمران: 107). وفي الحديث: " أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء من عبادي".
وفي الأثر أن يأتي رجل يوم القيامة فيُقال: زنوا حسناته وسيئاته، فترجح سيئاته فيقول من يقرضني حسنة واحدة؛ لأدخل بها الجنة؟ فيذهب لأمه وإخوانه وأصدقائه كلهم يقولون: نفسي نفسي، فيمر برجل عنده جبال من السيئات وحسنة واحدة فيقول له الرجل: خذ هذه الحسنة.. فيفرح.. فيقول الله تبارك وتعالى للذي أعطى الحسنة: لست أرحم به مني وأنا أرحم الراحمين، ادخلا كلاكما إلى الجنة.
سمَّى نفسه الرحيم وجسَّد لك رحمته في صور عديدة.. حتى تعيش كأنك تراه في كل ما حولك .. وجعل الأمّ في حياة كل منا دالة لتدلك على رحمته سبحانه.. إذا أردت أن تتخيل رحمة الرحيم مجسدة أمامك فانظر إلى أمك. يقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا عندما رأى أمًّا تسير تحت الشمس الحارقة، وهى تحمل رضيعها وتحميه من الشمس، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أترون بهذه الأم تلقي بولدها إلى النار؟" قالوا: لا يا رسول الله، قال: "الله أرحم بكم من هذه الأم بولدها"، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لك: إن نموذج تجسيد رحمة الله في الدنيا هو أمك؛ فمن يوم أن أصحبت المرأة أمًّا أصبحت دالة على اسم الله الرحيم.
انظر إلى كل شيء حوليك تتجلى فيها آثار رحمته.. كأنك تراه .. كان إبراهيم بن أدهم يمشي في بعض سكك المدينة، فرأى بابًا قد فُتح، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت؛ فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف متفكرًا، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينًا، فوجد الباب مُرتجًا، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك إلا أن رمت بنفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي أين تذهب عني، ومن يؤويك سواي؟ ألم أقل لك: لا تُخالفني، ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك، ثم أخذته ودخلت؛ فبكى ابراهيم بن أدهم لهذا المشهد وقال: صدق رسول الله: "لَـلَّهُ أرحم بعبده من الأم الشفيقه بولدها".
اظهار أخبار متعلقة
آثار الرحمة في الكون:
انظر إلى رحمته في تقسيم الليل والنهار، "وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (القصص: 73). تخيلوا لو أن الليل دائم أبدًا!! أو النهار دائم أبدًا!! "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء..." (القصص: 71). "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ..." (القصص: 72)
تخيل لو أتى الليل فجأة!! أو أتى النهار فجأة!! ماذا يحدث للكائنات؟ هل لك أن تتخيل الاضطرابات العصبية والاهتزازات التي من الممكن أن تحدث؟ "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ" (التكوير: 17/ 18). تخيل لو فككت قطعتين حديد ماذا سيحصل؟ صوت مزعج جدًا.. تخيل انسيابية خروج الليل من النهار .. والنهار من الليل بجمال وأصوات عصافير دون أي إزعاج "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" رحيم جميل حنون.
رحمة أخرى، وهي أن الله جعل الأشياء الأساسية، التي هي قوام حياتك لا أحد يتحكم فيها أبداً.. المياه من رحمته أن يُخزنها لك في الآبار، ومن رحمته ألا يُنزلها كلها من السحاب المُحمل بها، بل تصل لقمم الجبال فتتحول إلى ثلج على قممها تذوب في الصيف.. الهواء لا أحد يراه فيتحكم فيه.
رحمة أخرى وهى نزول المطر، يقول الله تبارك وتعالى "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ..." ( الشورى: 28)، "َانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا..." (الروم: 50). انظروا إلى الكون بطريقة جديدة غير التي تعودتم عليها.
تخيلوا لو أن الماء الذي ينزل من السماء ليس عذبًا .. مالحًا: "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ" (الواقعة: 68/ 69 /70 ). يقول الله تعالى: "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ" (الملك: 30). أليست رحمة من الله أن يجعل الماء ينزل إلى الأنهار ليُحفظ فيها ولا ينزل إلى باطن الأرض؟!
رحمته في العلاقات الاجتماعية:
من الذي غرس في الآباء والأمهات من لدن آدم إلى يوم القيامة في كل الكائنات أن يرحموا أولادهم؟، المكان الذي حُفظت فيه وأنت جنين سُمى بالرحم، وصلة الرحم يقول الله عنها: أنا الرحمن وهى الرحم اشتققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لللّه أرحم بكم من الأم الشفيقة".
من رحمته أنه مهما كثُرت ذنوبنا يعفو عنا.. "وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ..." (الكهف: 58). من رحمته إرسال النبي صلى الله عليه وسلم.. "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107).. الرحمة بلا حدود ولذلك انظر إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك رحمة تجمع بها شملي، وتلم بها شعسي، وتصلح بها أمري، وترد بها غائبي، وتعصمني بها من كل سوء، اسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة".
الخلق الذي يخرج من هذا الاسم: ارحم الناس .. ارحم المرأة .. ارحم الغلابة .. ارحم أباك وأمك.. ارحم الناس.. "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".. "الراحمون يرحمهم الله تبارك وتعالى ".. "من لا يَرحم لا يُرحم".
صلة الرحم.. "إن الرحمة لا تتنزل على قومٍ بهم قاطع رحم"… بر الوالدين.. "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..." (الإسراء: 24).. عش بهذا الاسم فهو مدخلك لمنزلة الرضا عن الله.