ربما نهتم في عبادتنا وعقيدتنا التي ندين بها لربنا سبحانه وتعالى بالابتعاد عن ظاهر الإثم، من المعاصي، التي حذر منها الله عز وجل، مثل شرب الخمر والسرقة، وسائر الكبائر التي جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية، لكن يغفل أغلبنا عن باطن الإثم، الذي لا يقل خطورة عن ظاهره، قال الله تعالى: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ﴾ [الأنعام: 120].
﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ الأمر في هذه الآية الكريمة للوجوب، موجَّهٌ لسائر المكلفين إنسًا وجنًّا، محرِّمٌ لكل ما يستقبح، وحاضٌّ بمفهوم المخالفة على جميع مكارم الأخلاق، وهو لصرامته وروعة بيانه، شديد الإيجاز، مؤلف من أربع كلمات لا يحتاج إلى الشرح اللغوي منها إلا لفظ "ذروا"، ولفظ "إثم".
معنى الإثم
والإثم لغةً هو الذنب، وهو كل عمل أو قول أو نيًة، توجب العقاب في الدنيا والآخرة، ومَن فسَّره بالعدوان أو الخمر، فإن العدوان والخمر مجرد صنفين من الإثم، والإثم أعمُّ منهما؛ يقال: أثم الرجل إثمًا ومأثمًا، فهو آثم وأثيم وأثوم: إذا أذنب، أو قام بما يسأل أو يعاقب عنه شرعًا، أما قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ [الفرقان: 68]، فمعنى "أثاما" هنا: جزاء الإثم؛ أي: يلقى نَكالًا.
والواقع يشهد أن المسلم قد يبرأ من المعاصي الكبرى إلاّ اللمم بل إن الواحد منهم لا يدخن فضلا عن أن يشرب الخمر أو يزني أو يلعب الميسر، لكن أمر قلبه شيء آخر، ويقتضي الإنصاف أن نعترف لغير قليل من المسلمين بنقاء القلوب وصفائها وإنابتها بفضل التربية المحرقة في المحاضن الربانية الهادئة، لكن غير قليل منهم أيضاً يفرّط في أمر قلبه بقدر ما يهتم بأمر جوارحه، وهكذا يتجاور الكلام الكثير عن الدعوة والأخوّة والأخلاق الكريمة مع سلوكيات يغمرها الرياء والحقد والبغضاء وما إليها من الأمراض القلبية والمعاصي النفسية التي تفوق في خطورتها آثام الجوارح ولو كانت هذه الآثام من الكبائر، فإذا كان الزاني مثلاً يُجلَد أو يُرجَم وقد يُتاب عليه فإن صاحب القلب العاصي لا مستقرّ له إلاّ السعير ولو أعجبك ظاهره وسلبتك دندنته حول مخائل السؤدد.
ترك الإثم
الله تعالى أمرنا بترك الإثم كله سواءً كان ظاهراً (معاصي اليد واللسان والفرج ونحوها) أو باطناً (معاصي النفس كالحسد والكِبر والعجب بالإضافة إلى ما ذكرنا آنفا)، ولا يغني صلاح الظاهر شيئا إذا خالف ما عليه القلب الذي هو محل نظر الله”إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى ما كسبت قلوبكم”- رواه مسلم – أي أن المعيار المحكم هو الباطن.
وقد جرب السالكون لطريق الدعوة فعرفوا أن أمراض القلوب سلاسل مقيدة وسهام شيطان ونواقض بدايات نابضات، وكم ظهر في الصف من يقيم الدنيا على السبحة باعتبارها بدعة في حين يتطاير الشّرر من قلبه حقداً وبغضاءً وكرهاً لمخالف في رأي فقهي بل ولكبار العلماء والدعاة والمصلحين لشبهات طغت عليه ولم يمحصها لقصر نظره وقلة باعه من العلوم الشرعية وأدوات النقاش والجدال ، وقد أنساه الشيطان أن هذه الدعوة حب فلا مكان في سلكها لمن تغلي قلوبهم بمراجل البغض انتصاراً لله بزعمهم، وإنما ينتصر المؤمن لله بتعاهد قلبه بالتنقية والتزكية ليكون منطلقاً للرحمة والشفقة والمحبة، والأمر لا يعدو أن يكون من تبليس إبليس الذي يزكي المغرورين بإصلاح ظاهرهم ليقحمهم في المهلكات القلبية التي كثيراً ما يختم لأصحابها بخواتيم السوء.
اظهار أخبار متعلقة
قلب الإنسان
فالأساس في هذا الإنسان هو القلب، ولا ينتصر الإنسان وينقذ نفسه من براثن المعصية "إلا من أتى الله بقلب سليم"، فصاحب هذا القلب لا تتحرك جوارحه إلا في طاعة الله ، وبانسجام ظاهره وباطنه يبارك الله سعيه فيكون قدوةً صالحة تحبب الدين للناس ويكون مهوى أفئدتهم لأن سلاحه الدعوي لا يتعدى الكلمة الطيبة “وقولوا للناس حسنا” وفعل الخير” وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” والمناداة للإصلاح “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت”، فأما من انخرط في زمرة الدعاة وهو غير ملتفت لقلبه المريض يتباهى بترك المباح وهو غارق في الكبائر النفسية كمن يتورع عن البعوض ويبتلع الجمل فهو كمثل المنافق.
فمطلق الإثم الذي تحرِّمه هذه الآية الكريمة، منه ما هو متعلق بالمعتقد، ومنه ما هو متعلق بالنية والقصد والإرادة، ومنه ما يتعلق بأمراض القلوب وخطرات النفس، أو أعمال الجوارح الظاهرة والمستترة، فإثم المعتقد هو الشرك بالله تعالى؛ قال عز وجل: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، ومنه إنكار ألوهيته عز وجل أو ربوبيته، أو أسمائه وصفاته، أو إشراك غيره معه فيها، عقيدة قلبية أو عبادة عملية، ومنه ما اجتمع فيه الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم مع أعمال، جُعِل فيها لغير الله نصيبٌ؛ قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عن ربِّه: (قال الله تبارك وتعالى: أنا خير الشركاء، مَن عمل عملًا، فأشرَك فيه غيري، فأنا منه بريء، هو للذي أشرك به) .
وأما إثم النية والقصد والإرادة، فيتعلق بقصد العامل بعمله، هل هو لله أم لغير الله، للخير أم للشر؟ وذلك ما شرَحه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى..).
وأما إثم أمراض القلوب وخطرات النفس، فكثيرة، وعلى رأسها النفاق والحسد والحقد والعجب، والكبرياء والرياء، والنجوى والوساوس، والأماني الضالة، وسوء التأويل لأقوال المسلمين وأعمالهم، والميل للإضرار بالخلق، وإيثار الدنيا على الآخرة، وهي كلها همٌّ وغم وحزن، وضائقة نفس في الدنيا، ومحاسبة في الآخرة، سواء ظهرت آثارُها في تصرفات المرء وأقواله وأفعاله، أم لم تظهر؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلَحت صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب).