لا تقف الشهوة في تعريفها على قوةٌ نفسيةٌ تؤدي إلى رغبةٍ شديدةٍ لشيء ما أو ظرفٍ يُرضي الشعور، ولكنها قد تكون البوصلة الحقيقية في اتجاه الإنسان إلى الله والارتقاء إليه، أو الانحراف إلى الشيطان، وتظهر الشهوة في أشكالٌ متنوعةٌ مثل الرغبة الجنسية والحب والمال والقوة، لذلك قال الله سبحانه وتعالى : " إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) التغابن.
ولكن مع هذا الصراع الذي فرضته الفطرة الإنسانية على كل واحد فينا مع هذه الشهوة، وتحديد مصيره بناءا على هذه المعركة، التي قد يضعف خلالها، وتنتصر عليه شهوته في مواقف كثيرة، هل الإنسان هو مجرد ضحية لشهوته، ولماذا خلق الله هذه الشهوة وجعلها مناط مصير كل واحد فينا رغم خطورتها ورغم قوتها وضعفنا أمامها؟، وهل في خلق الشهوة ظلم للإنسان الذي خلقه الله ضعيفا أمام شهوته؟.
في مواجهة هذه الأسئلة وقبل الإجابة عليها، تصور مخلوقًا لا يشتهي، ولا يحب، ولا يكره.. لا يأكل، ولا يشرب، ولا يقترب من امرأة، هذا الإنسان كيف يرقى إلى الله؟ لا سبيل له، هذه الطاولة لا تتحرك، ولا تشتكي، ولا تجوع، ولا تتألم، ولا تشتهي أنثاها، فكيف ترقى إلى الله؟.
وضع الله سبحانه وتعالى في الإنسان الشهوات، وتم تكوينه من عقل وشهوة، ليختلف عن الملائكة التي تتكون من عقل فقط بلا شهوة، بخلاف الحيوان الذي يتكون من شهوة بلا عقل، ليكون الإنسان وسط بين نقيضين ( عقل وشهوة)، فإن سما عقله على شهوته كان فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله كان دون الحيوان.
فلولا هذه الشهوات لما ارتقينا إلى رب السموات والأرض، فهي وقود في المركبة، فما قيمة المركبة بلا وقود؟ لا تتحرك.. لا تؤدي وظيفتها.. لا تنقلك من مكان إلى مكان، لكن هذا الوقود سائل فيه قوة الانفجار، لو أن هذا السائل وضع في خزان محكم، وسال في أنبوب محكم، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، ولدّ حركة مناسبة نقلتك أنت وأهلك إلى بلد جميل، أو نقلت البضاعة إلى مبتغاها، أمّا إذا خرج هذا الوقود السائل عن مساره، واحترق أحرق أصحابه.
لذلك لا تلوم على الشهوة فالشهوات حيادية، وهي مجرد سلّم أو دركات نسعد بها أو نشقى بها، المرء يمكن أن يتزوج من امرأة صالحة، تسرك إذا نظرت إليها، وتطيعك إن أمرتها، وتحفظك إن غبت عنها، يمكن أن تؤسس أسرة تسعد بها طوال حياتك، ويكون بيتك سكناً ترتاح فيه.. تستعيد نشاطك في اليوم التالي، ويمكن أن تنجب ذرية صالحة تكون لك صدقة جارية إلى يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ، إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))
ويمكن أن ينحرف الإنسان، فيقضي وطره بطريق محرم، فيشقى في الدنيا، ويشقى في الآخرة، لذلك أصل الجنة أن تخاف مقام ربك فيما أودعه فيك من شهوات، فشتان بين من يدع الزنى خوفاً من الله وابتغاء مرضاته وطلباً للجنة، وبين من يدع الزنى خوف مرض الإيدز، فرق كبير جداً بين الاثنين، فلذلك أصل الجنة أن تخاف مقام ربك فيما أودعه فيك من شهوات، مصداقا لقوله تعالى:﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾.
كيف ننتصرعلى الشهوة؟
يقول الله تعالى﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾، وقال: "﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ ﴾[ سورة هود: 112 ].
إن الله أمر المسلمين بما أمر به المرسلين هذا في الاستقامة، أمركم بأشياء ونهاكم عن أشياء، فالذي نهاكم عنه فدعوه، والذي أمركم به فافعلوا منه ما استطعتم، في العطاء، وإنفاق المال ما استطعتم، في بذل الجهد ما استطعتم، في إنفاق العلم ما استطعتم:﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [ سورة البقرة: 286].
ففي الإسلام تكاليف، بعضها تأمر أن تدع، وبعضها تأمر أن تعطي، أما في مجال الاستقامةِ لا تحتمل التفاوت، وليس فيه حالة وسط، هناك أمور لا بد من أن تنتهي عنها، فالشيء المتعلق بالترك حدي، الوضع لا يحتمل تفاوتاً، مثل ترك المنكر.. ترك الكذب.. ترك الخيانة.. ترك أكل المال الحرام، كل شيء فيه ترك حدّي، وكل شيء فيه بذل نسبي، ينبغي أن تؤديه دون مواربة﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾.
لذلك أصحاب النبي كما قال عليه الصلاة والسلام: لو تركوا العشرة لهلكوا في العطاء، والذين يأتون في آخر الزمان القابض على دينه كالقابض على الجمر، لو تركوا العشرة لنجوا، فالاستقامة تزيل كل العقبات التي أمامك في طريقك إلى الله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ".
اقرأ أيضا:
عبد الله مخلصا 500عام وقذف في النار .. هذا هو السبب .. اللهم ادخلنا الجنة بفضلك وليس بعدلك