يقول الله تعالى في سورة فُصلّت, ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾.
روى ابن جرير عن سعيد بن عمران قال: "قرأت عند أبي بكر الصديق هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئًا"، ثم روى من حديث الأسود بن هلال قال: قال أبو بكر الصديق : "ما تقولون في هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا؟ قال: فقالوا: ربنا الله ثم استقاموا من ذنب، فقال: لقد حملتموه على غير المحمل قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فلم يلتفتوا إلى إله غيره".
الاستقامة هي عدم الالتفات عن الله سبحانه وتعالى، وهي توجيه العمل لله خالصا لوجهه الكريم لا يلتفت عن رضاه سبحانه برضا عيره من المخلوقات، والاستقامة عين كرامة الإنسان المؤمن, فكلَّ ثِمار الدين , وكلَّ ما في الدين من سعادةٍ , وسكينةٍ , واطمئنان, وشعورٍ بالأمن النفسي, لا يقطفها الإنسان إلا إذا استقام على أمر الله , فبين الذي يستمع كثيراً ولا يطبّق , وبين الذي يستمع ويطبّق بونٌ شاسع .
منزلة الإستقامة :
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
ذكرَ الله عزّ وجل في هذه الآية ثلاث ثمار من ثمار الاستقامة:
أولهما وثانيهما ألا تخافوا ولا تحزنوا .
وقد يخاف الناس , وقد ينخلعُ قلبُ الناس لخطرٍ داهمٍ , وقد يقلقون , وقد يُقهرون ، أما ربنا سبحانه وتعالى يصف هؤلاء المستقيمين بأنهم يتمتعون بشيئين :
ألا تخافوا ولا تحزنوا .
لا تخافوا مما هو آت , ولا تحزنوا على ما فات ، وهل من شعورٍ يدمّر السعادة الإنسانية كالخوف أو الندم ؟.
إنَّ من أمضِّ المشاعر, ومن أشدها إيلاماً : أن تندمَ على شيء فات , وأن تقلقَ للمستقبل .
القلق والندم صفتان ملازمتان للمنحرفين , دائماً يندم على ما فات , ودائماً يقلق لِما هو آت . فالمستقيم كما وعدَ الله عزّ وجل:﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾.
التوحيد ثم الاستقامة
لما قال المؤمنون ربنا الله ثمَّ استقاموا ، تكوّنت قناعاتهم بأنَّ الله سبحانه وتعالى هو ربّهم لا شريك لهم , وهو الربٌّ وحده , يجب أن تؤمن بأن الله هو الخالق , وأنه لا خالقَ سِواه , وأنه هو الربّ , وأنه لا ربَّ سِواه , وأنه هوَ المُسير , وأنه لا مُسير سِواه .
عبّرَ علماء التوحيد عن هذه الحقائق بقولهم :
وحدة الخلق ، وحدة الربوبية ، وحدة الإلوهية .
فحينما تطلب من الله الكرامة ، وأن ينصرك الله على أعدائك ، ويوفقك ، وأن يرفع شأنك , وأن يستخلفكَ في الأرض ، أن يمكّن لكَ دينك ، فعليك أولا بالاستقامة, إذا أردتَ أن تكون أكرمَ الناس فاتقِ الله ؛ أي استقم على أمرِ الله .
ما الاستقامة ؟
قال بعضهم : إنها ضدُ الطغيان .
و معنى طغى ؟ خرجَ عن الخط المستقيم وعن المنهج .
والاستقامة أن تلزمَ المنهجَ الإلهي, أن تلزم أمرَ الله وسُنّة نبيه, والطغيان أن تحيدَ عن هذا المنهج؛ في عقيدتك, في تصرفاتك, في كسبِ المال, في إنفاق المال, في علاقاتك, في جِدّكَ, في لَهوكَ, في إقامتكَ, في سفركَ, في علاقاتك الداخلية, في علاقاتك الخاصة جداً, في علاقاتك العامة.
ولكي يتحقق لك موعود الله بدخول جنته يجب أن تكون استقامتك خالصة إليه, يقول الله تعالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾ [سورة الجن الآية: 16-17].
فالناس لو استقاموا على أمر ربهم, لانهمرت السماء بمائها، لذلك كلما قلَّ ماء الحياء قلَّ ماء السماء, وكلما رَخُصَ لحم النساء غلا لحم الضأن، علاقات ثابتة، وكلما هانَ الله على الناس هانوا عليه .
ومن ثمار الاستقامة أيضا أن الله سبحانه وتعالى يفرّجُ عنك, يزيلُ عنكَ كلَّ كرب, كلَّ هم, كلَّ حزن, كلَّ ضيق, كلَّ قلق .
وعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: ((قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قُلْ لِي فِي الإسْلامِ قَوْلا لا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ, قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: بَعْدَكَ, قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ)).
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا, فَإِنَّهُ لَنْ يُدْخِلَ الْجَنَّةَ أَحَدًا عَمَلُهُ, قَالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: وَلا أَنَا إِلا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ, وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ)).
فالعمل مهما كانَ مستقيماً، مهما كانَ البذلُ كبيراً, لا يكفي لدخول الجنة, هو مفتاحٌ للجنة, ربنا عزّ وجل جعل الاستقامة والأعمالَ الصالحة مفتاحاً لدخول الجنة, أما دخول الجنة بفضلِ اللهِ عزّ وجل .
اقرأ أيضا:
الإيمان قول وعمل واعتقاد.. وهذا هو الدليل