جاء الشرع الشريف بنماذج كثيرة في القرآن والسنة، للتحذير من التحايل على الدين والأحكام الإلهية، بهدف ارتكاب الحرام من خلال تسمية الأمور بغير مسمياتها، وهي من صفات اليهود.
فعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضيَ اللهُ عَنهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَاتَلَ اللهُ يَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، فَبَاعُوهَا وَأكَلُوا أثْمَانَهَا». متفق عليه.
وقال الله سبحانه وتعالى ﴿واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ، فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
لما بعث الله تعالى موسى عليه السلام نبيًا إلى بني إسرائيل، وكان مِن شريعته التي جاء بها إليهم أن فرض الله عليهم يومًا يجتمعون فيه ويقيمون فيه شعائرهم، ويتخذونه عيدًا يذكرون الله فيه، ووكل تعيين اليوم إلى اجتهادهم، فأرشدهم نبيهم عليه السلام إلى يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام، ورغبهم فيه لما يعلم من فضيلته، ولكنهم فضّلوا يوم السبت؛ لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعًا يوم السبت، وكان آخر الستة؟! وادّعوا كذباً أن الله لما خلق الخلق استراح يوم السبت فهو يوم راحته ويوم راحتهم، فأوحى إليه ربه أن دعهم وما يختارون لأنفسهم، وأخبرهم أن لا يصيدوا فيه سمكًا ولا غيره، ولا يعملون فيه شيئًا سوى ما شرعته لهم من العبادة.
امتثل اليهود بأن يكون يوم السبت هو يوم عيدهم، ومات موسى عليه السلام، ودارت الأيام إلى أن بعث الله سبحانه داوود عليه السلام نبيًا، وفي زمانه كانت قرية تدعى "أيلة" قريبةٌ من العقبة، على ساحل البحر، يسكنها قوم من بني إسرائيل يدينون باليهودية، يخرجون لمعاشهم طيلة أيام الأسبوع إلا يوم السبت، فيصطادون الأسماك، ويقتاتون منها، ويبيعونها، ومكثوا على ذلك زمنًا من عمرهم، فابتلاهم الله الحكيم بيوم السبت، فكانوا إذا جاء السبت أقبلت الحيتانُ ظاهرةً أمام أعينهم، وفي متناول أيديهم ، فإذا غربت شمس يوم السبت ذهبت الحيتان صغيرها وكبيرها في باطن البحر فلم يجدوا منها شيئا في ستة الأيام المقبلة.
استمر بهم الحال كذلك حتى طال عليهم الأمد، واشتاقوا للحم البحر، فعمد أحدهم في يوم السبت إلى سمكة استحسنها واستسمنها، فأخذها سرًا من الماء، وخطمها في أنفها بخيط، وضرب وتدًا له في الساحل، ثم ربطها وأحكم وثاقها فيه، ثم انصرف إلى بيته.
وفي صبيحة الأحد انطلق الرجل للساحل، فأخذ السمكة وأكلها، علم بفعلته أهل القرية، فأخبرهم الخبر، فاستحسن بعضهم هذه الحيلة، وجاؤوا بحيلة أخرى فكانوا يحفرون الحفر على شاطئ البحر، قبل مجيء السبت، فإذا كان يوم السبت أقبلت الحيتان تدفعها الأمواج إلى تلك الحفائر، ثم ينحسر الموج عنها، فتبقى فيها، فيجيؤون في اليوم التالي، فيأخذونها، ومكثوا على فعلتهم هذه مدة طويلة سرًا، ثم بدؤوا بعد ذلك في صيدها علانية، وبيعها في الأسواق، فانتهكوا بذلك حرمة يوم السبت، وخالفوا أمر الله تعالى.
لم يكن هذا الفعلُ فعلَ أهل القرية كلها، بل كان مِن القوم أولو بقية ينهون عن الانتهاك والتحايل، وينكرون عليهم قائلين: (ويحكم! إنما تصطادون يوم السبت، وهو لا يحل لكم، وإن صيدكم للحيتان يوم أن حفرتم حفركم، فدخلت الحيتان فيها يوم السبت).
اظهار أخبار متعلقة
وهناك طائفة أخرى لم يشركوهم في صيدهم يوم السبت، رأوا تحرّق هؤلاء الناصحين على قومهم، وصدقَ نُصحهم لهم، ورأوا في المقابل عدم سماعِ العاصين للنصح، فأشفقوا على الناصحين فقالوا لهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ﴾ في الدنيا بمعصيتهم إياه، وخلافهم أمره، واستحلالهم ما حرم عليهم. ﴿أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في الآخرة!.
فكان هذا منهم عتابًا ولومًا على موعظة من لا يتعظ، ويُعلم من حاله أنه غير مقلع عن ذنبه. فأجابهم الناصحون قائلين: ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ﴾: فالأمر بالمعروف واجب علينا إعذارًا إلى الله، ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ وينتفعون بالموعظة فيتركون المعصية.
لم ينته القوم عن فعلتهم، واستمروا في عصيانهم، فما كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلا أن انتقلوا إلى مرحلة أخرى من مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فعزموا على مقاطعتهم واعتزالهم، فقالوا لهم: “والله لا نساكنكم في قرية واحدة“. فانحاز هؤلاء إلى ناحية من القرية، وانحاز الآخرون إلى الناحية الأخرى، وقسموا القرية بجدار، ففتح المحرِّمون للسبت بابًا من ناحيتهم، وفتح المعتدون في السبت بابًا من ناحيتهم، قال بعض المفسرين: وهم الذين لعنهم داود ; لاعتدائهم ذلك، كما قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾
وذات يومٍ خرج المحرِّمون للسبت على عادتهم فهم في أنديتهم ومساجدهم، وإذا بباب المعتدين مغلقٌ، ولم يفتح على خلاف العادة، وحين أبطأوا عليهم انطلقوا فتسوروا الحائط، فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقةً عليهم، قد دخلوها ليلًا فغلقوها على أنفسهم، كما يُغلِق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأةَ بعينها وإنها لقردة، والصبيَ بعينه وإنه لقرد.
قال تعالى: ﴿فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾.
مكث هؤلاء الممسوخون ثلاثة أيام، ثم هلكوا بعدها، فلم يكن لهم عقب ولا نسل، وفي حديث أم حبيبة قالت: قال رسول الله ﷺ: “إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِمَسْخٍ نَسْلا وَلا عَقِبًا”.
وفي مسألة أُخرى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لما حرمت على اليهود الشحوم أذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ”.
والتحايل على الأحكام مِن صفات اليهود، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ”.
اقرأ أيضا:
أعظم وصية نبوية..وسيلة سهلة لدخول الجنةالتحايل في العصر الحديث باسم الحرية
يقول المفتي السابق الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، إن من سمات هذا العصر "الحرية"؛ والحرية في مقابل الـ Freedom ،ولو أننا كنا من مكان المترجمين الأوائل لاخترت لهم (التفلت) وليست الحرية ،فـ (Freedom) في بعض معانيها أو في كثير من دلالاتها تعني (التفلت) ولا تعني كلمة الحرية التي يعنيها هذا المصطلح في استعماله التراثي بإزاء العبودية.
وأوضح المفتي السابق خلال مقال له عن خطورة تسمية الأمور بغير مسمياتها، أن الحرية أمر طيب يتشوف له الشرع الشريف، يغير كثير من الأحكام من أجل تشوفه للحرية ، فعندما نسمي شيئا له تحميلات فلسفية أخري قد تتوافق وقد تتخالف مع ما لدينا فبهذا حصل احتلال لهذا المصطلح ،وحدث اختلال لمعناه وأصبح هناك هذا مما يزيد الفجوة بيننا وبين موروثنا.
وأشار إلى ما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أمر مهم من مهمات الدين وهو عدم التلاعب باللغة، ونبهنا أن التلاعب باللغة سيجر علينا أبواب شر كبيرة لا نستطيع أن نغلقها ،ونستحل بها الحرام ونحرم بها الحلال ،ونأمر بذلك بالمنكر وننهى عن المعروف على عكس مراد الله من خلقه ،وعلى عكس ما أراده الله سبحانه وتعالى لنا من طريق مستقيم.
وتابع: "يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن شأن آخر الزمان (يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها) ولنقف عند هذه الجملة ونرى ما وراءها ونرى سيد المرسلين وهو يوجه أصحابه الكرام إلى هذه القاعدة وهذا المفتاح وذلك الباب الذي إذا التزم به الناس تميزوا في دعوتهم إلى الله وإذا ما تركوه فرط عقدهم وانفرط نظامهم (يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها ..) وقد كان؛ نعم أسموها بالشمبانيا وبالويسكي وبالجِن وبأنواعٍ لا تتناهى لا يحصرها الخمّار .. شاعت وذاعت في البلاد والعباد، وأخذ الناس يتساءلون عن الفرق بين الشمبانيا وبين الخمر، وكأن الخمر قد حُصِرت في نباتٍ معين! والنبي ﷺ يقول: (كل مسكرٍ خمر) ونهى رسول الله " عن كل مسكرٍ ومُفَتِّر" فنهى عن المسكرات ونهى عن المخدرات، وأجمعت الأمة على أن الحشيشة التي تخدّر عقل الإنسان وتغيبه عن وعيه وعن التكليف الذي أمره به ربه أنها حرام شأنها شأن الخمر لأنها تُذهب العقل.
وشدد جمعة على أهمية أن ننتبه إلى خطورة التلاعب بالكلمات التي وضع الله لها معانٍ في اللغة العربية وعلمها لآدم وأنزلها في كتابه وأجراها على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وعلّق عليها الأحكام ونقلتها الأمة جيلاً بعد جيل، موضحا أن التلاعب على هذا الشأن ذاع وشاع وأطلقنا الحرية وهي الكلمة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء الرق والعبودية جعلناها عنوانًا على التفلت ، نتفلت من كل شيء وندّعي أن ذلك التفلت يولّد لدى الإنسان الإبداع، والإبداع كلمة محترمة لطيفة في اللغة العربية لأن فيها إيجاد وفيها فن ، لأن فيها جمال لكننا قد خرجنا عن حدود الجمال وعن حدود الفنون وعن حدود الإيجاد الذي يُصلح الأرض إلى بعض خيالات السكرانين، فأطلقنا كلمة الحرية على التفلت، والإبداع على المخرقة ،والشمبانيا على الخمر ، وقس على ذلك في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع وعلوم الإنسان والقانون وفي مجال الإنسان الذي يحيا في عصره حتى اختلطت المصطلحات.