رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم باقتراب أجله بعد حجة الوداع إلا أنه حرص على إنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه لمقاتلة الروم في فسلطين من أجل حماية الدولة الإسلامية الوليدة ونشر الدعوة إلى دين الله.
وقد كانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين المجاورتين للجزيرة العربية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحتل أجزاء كبيرة من شمال الجزيرة، وكان أمراء تلك المناطق يُعينون من قبل الدولة الرومانية وينصاعون لأوامرها. بعث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الدعاة والبعوث إلى تلك المناطق، وأرسل دحية الكلبي بكتاب إلى هرقل ملك الروم يدعوه فيه إلى الإسلام، ولكنه عاند وأخذته العزة بالإثم.
وكانت خطة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة المعالم لهز هيبة الروم في نفوس العرب، ومن ثم تنطلق جيوش المسلمين لفتح تلك الأراضي، فأرسل صلى الله عليه وسلم في العام الثامن للهجرة جيشا واشتبك مع نصارى العرب والروم في معركة مؤتة، واستشهد قادة الجيش على التوالي زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة رضى الله عنهم، وتولى قيادة الجيش بعدهم خالد بن الوليد رضى الله عنه فعاد بالجيش إلى المدينة النبوية.
وفي العام التاسع للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيش عظيم إلى الشام ووصل إلى تبوك، ولم يشتبك جيش المسلمين بالروم ولا القبائل العربية وآثر حكام المدن الصلح على الجزية وعاد الجيش إلى المدينة بعدما مكثوا عشرين ليلة بتبوك.
وفي العام الحادي عشر ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس لغزو الروم بالبلقاء وفلسطين وفيهم كبار المهاجرين والأنصار، وأمرَّ عليهم أسامة رضي الله عنه، قال الحافظ ابن حجر: جاء أنه كان تجهيز جيش أسامة رضى الله عنه يوم السبت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، فندب الناس لغزو الروم في آخر صفر ودعا أسامة رضى الله عنه فقال: «سر إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش» وطعن بعض الناس في إمارة أسامة رضى الله عنه فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده».
ومرض النبي صلى الله عليه وسلم بعد البدء بتجهيز هذا الجيش بيومين واشتد وجعه عليه الصلاة والسلام فلم يخرج هذا الجيش وظل معسكرا بالجرف ورجع إلى المدينة بعد وفاة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وتغيرت الأحوال مع انتقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى رحمة ربه، وصارت كما تصف أم المؤمنين عائشة الصديقة -رضي الله عنها- بقولها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة واشرأب النفاق، والله قد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها،
وصار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كأنهم معزي مطيرة في حش في ليلة مطيرة بأرض مسبعة. ولما تولى الخلافة الصديق أمَّر رضى الله عنه رجلاً في اليوم الثالث من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس: ليتم بعث أسامة رضى الله عنه، ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة رضى الله عنه إلا خرج إلى عسكره بالجرف، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس: إنما أنا مثلكم وإني لا أدري لعلكم تكلفونني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة -ضربة سوط فما دونها – وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم وأنتم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإياكم أن تكونوا أمثالهم، الجد الجد، والوحا الوحا، والنجاء النجاء، فإن وراءكم طالبا حثيثا، مَرُّه سريع، احذر الموت واعتبر بالآباء والأبناء والإخوان ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات.
وقام خليفة رسول الله أيضا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أريد به وجهه، فأريدوا الله بأعمالكم، فإنما أخلصتم لحين فقركم وحاجتكم، اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم، أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميما، قد توالت عليهم العالات، الخبيثات للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسي ذكرهم وصاروا كلا شيء إلا أن الله -عز وجل- قد أبقى عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبعثنا خلقا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن انحدرنا كنا مثلهم.
وقال أبو بكر رضي الله عنه أيضًا: أين الوضاءة الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]. أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم؟، قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه، وأقاموا للشقاوة أو السعادة بعد الموت، ألا إن الله لا شريك له ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا ولا يصرف به عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره، واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته، أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة.
اقرأ أيضا:
ماذا تعرف عن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين؟اقرأ أيضا:
حينما تأتيك المصائب فجأة وتشتد عليك الدنيا.. اقرأ هذه القصة