تحدث الكثير من الكتاب والمستشرقين عن عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن تناول عظمة النبي كان دائما في إطاره البشري، كإنسان عظيم قد يتساوى معه غيره في هذا الجانب من العظمة، ويتساوى معه ذاك في جانب أخر، إلا أن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عظيما ولكن ليس ككل عظيم من البشر، فقد فاقت عظمته أن كان منبعا للعظماء، فكيف يتساوى مع غيره وقد خرج من بين يديه وتربى على علمه آلاف بل ملايين العظماء من الصحابة والتابعين والمجاهدين، وغيرهم من الرجال الذين ضربوا المثل في الشجاعة والحكمة.
عظيمًا ليس ككل عظيم بل مدرسة العظماء
فمن الظلم لمحمد، أن نصفع عظيما وهو الذي أخرج هؤلاء الرجال لأمن العظماء أمثال أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد، فمِن الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم بالتاريخ، وقد كان العظيم ممن ذكرنا شأنه قبل الإسلام بخلاف ما كان عليه بعد إسلامه.
وقد أثبت هذا العشرات من الصحابة، حينما عددوا ماكانوا يفعلونه من شرب الخمر ووأد البنات، والغلظة في التعامل والعصبية، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وتربوا على يديه، وكان لكل واحد من الصحابة ما كان من القدوة والشرف، الذي نتحدث عنه حتى يومنا هذا، بماتربى عليه من العلم والأدب والشجاعة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
اقرأ أيضا:
آخر من يدخل الجنة.. النبي يضحك من حواره مع رب العالمينسره كعلانيته
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده جامعا للعظمة من أطرافها، فلم يكن النبي يخشى من شيئ في السر أو العلن، بل كان سره كعلانيته، فأي إنسان هذا الذي تجده كتابا مفتوحا في هديه وسلوكه مع كل البشر، حتى أن زوجاته كانت تحكي ما يعيشه في اليوم والليلة دون أن تجد ما نختبئ منه نحن.
فما من أحد إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها، وكتمان أمرها، ويخشى أن يطَّلع الناس على خبرها، نواحٍ تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تدلُّ على ضعفه.
في حين كان النبي صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعًا، فكانت كتابًا مفتوحًا، حتى أنه هو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كلَّ ما يكون منه ويبلغوه، فكانت سيرته في كل شيئ أمام أعيننا وبين أيدينا، لم نجد منها إلا ما نرفع به رؤوسنا كمسلمين تابعين لقدر النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن هذا الذي تجده منضبطا في فرحه وغضبه، في حزنه وبكائه، وفي سعادته وضحكته، في ساعت الضعف البشري، من الرغبة، والانفعال.
أفعاله شريعة
من هذا الإنسان الذي نرى أن أفعاله شريعة يقتدي بها الملايين والمليارات من البشر على مدار مئات السنين، فقد رروى نساؤه كلَّ ما كان بينه وبينهنَّ، فالسيدة عائشة رضي الله عنها تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله؛ لأنَّ فعله كلَّه دين وشريعة، وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها، لقد رووا عنه في كلِّ شيء حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.
هل هناك عظيم دُوِّنَت سيرته بهذا التفصيل، وعرفت وقائعها وخفاياها بعد ألف وأربعمائة سنة، مثل ماحدث مع النبي صلى الله عليه وسلم؟، فالعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإما أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم، وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم، ولكلِّ عظيم جانب من هذه المقاييس تُقاس بها عظمته، أما عظمة محمد تقاس بها جميعًا؛ لأنَّه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار.
وبحدود عقولنا الصغيرة، فإن العظماء يكونوا في أقوامهم فقط، مثل الأبطال المحاربين والقادة الفاتحين، ولكن لمنسمع أن هناك عظيما في أخلاقه وفي كلماته وفي حله وترحاله إلا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى أن أعداءه كانوا يدرسون سيرته ليتعلموا كيف كانت عظمته وماهو سرها لهذا الحد الذي يحفظ الناس كل كلمة خرجت من بين شفتيه، ويذكرونه آناء الليل وأطراف النهار.
إنّ مما يدل على عظمة النبي صلى الله عليه وسلم : هو كثرة أسمائه وصفاته ، قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رؤوف ، رحيم .
قال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه قال عن نفسه (إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم )الحج 65 ، وقال عن النبي صلى الله عليه وسم ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) التوبة 128 .
وعن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ لِي أَسْمَاءً ، أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ .
عَنْ حُذَيْفَةَ ، قَالَ : لَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : أَنَا مُحَمَّدٌ ، وَأَنَا أَحْمَدُ ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ ، وَأَنَا الْمُقَفَّى ، وَأَنَا الْحَاشِرُ ، وَنَبِيُّ الْمَلاحِمِ .
اظهار أخبار متعلقة
من آثار عظمة النبي:
عندما خُيّرَ رسول الله في أن يكون نبينا ملكاً أو عبداً نبياً فاختار أن يكون عبداً نبياً لما في مقام العبودية من الشرف والتكريم فقال تعالى وهو ينسبه إلى نفسه : " سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى " يدل ذلك على رفضه اختيار الملك من قبل الله تعالى .
وعرض عليه كفار قريش مرة المُلكَ والجاه والسلطان والمال والثروة والرياسة عليهم بل على العرب جميعاً في مقابل ترك الدعوة الإسلامية والرجوع إلى آلهتهم الضالة فقالوا قولتهم المشهورة : إن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال وجعلناك أغنى رجلا فينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا وجعلنا لك الأمر وإن كان بك مس من الجن أو مرض لا يشفى عالجناك حتى تشفى من هذا المرض .
فرفض النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك ورفض كل تلك الإغراءات الكذابة التي لا تغري إلا ضعاف القلوب وأصحاب العقول الفاسدة الذين يركنون إلى الدنيا وملذاتها وينسون الآخرة وما فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته الشهيرة التي يذكرها التاريخ له بكل ما فيها من نور وضياء وهدى ورحمة قال لعمه أبو طالب: " يا عم والله لو جعلوا القمر عن يميني والشمس عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ".
مقولة تقشعر لها الجلود وتخشع لها القلوب قولة رجل واثق من نصر ربه واثق ومؤمن بما يبلغ عن ربه من أن الله سينصر هذا الدين ويعلي رايته ولو كره الكافرون .
فكان هذا النبي العظيم جديراً لأن يحظى بكل حب وبكل تقدير وبكل احترام وبكل تبجيل من جميع من اتبعوه وآمنوا به واتبعوا النور الذي جاء به وممن لم يؤمنوا به .
ومن صور عظمته ما روى ابن ماجه في سننه عن قيس بن أبي حازم : أن رجلاً أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بين يديه فأخذته رعدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هوّن عليك فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)
نعم فهذا التواضع هو من عظمة الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم .
وليس أدل على عظمته من موقفه مع كفار قريش عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا فقال لأهلها بعد أن آذوه وعذبوه : "ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فقالوا أخ كريم وابن أخ كريم . فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء" .
وفي ختام ذكر عظمة النبي التي ليس كعظمة البشر، عظمة الرجال الذين صنعهم في حياته من بينهم أبي بكر الصديق، حينمامات النبي، وعندما قام أبو بكر غير متأثر بهذا الخبر فدخل على رسول الله بعد ما سمع بوفاته وخرج على المسلمين وقال " أيها الناس ، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت " . وقرأ قوله تعالى " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ " .