كل من زرع حصد، ومن مشى وصل، ومن طلب وجد، والطلب لا يحصل إلا بالمجاهدة.
فاعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم، وبيان الحق على سبيل الإلهام، وذلك لا يدخل من طريق الحواس، بل يدخل في القلب، ولا يعرف من أين جاء، لأن القلب من عالم الملكوت، والحواس مخلوقة لهذا العالم عالم الملك.
متى يطالع القلب عالم الملكوت؟
لا تظنن أن هذه الطاقة تنفتح بالنوم والموت فقط، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة.
فإذا جلس الإنسان في مكان خال، وعطل طريق الحواس، وفتح عين الباطن وسمعه، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت، وقال دائما: "الله - الله – الله" بقلبه، دون لسانه، إلى أن يصير لا خير معه من نفسه، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى انفتحت تلك الطاقة، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم.
فتظهر وتنكشف له ملكوت السماوات والأرض، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغربها.
وقال الله عز وجل: (وَكَذلِكَ نُري إِبراهيمَ مَلَكوتَ السَماواتِ وَالأَرض) .
وقد كانت علوم الأنبياء عليهم السلام كلها من هذا الطريق، لا من طريق الحواس، كما قال سبحانه وتعالى: (وَاِذكُرِ اِسمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّل إِلَيهِ تَبتيلاً) ، معناه: الانقطاع عن كل شيء، وتطهير القلب من كل شيء، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية.
اقرأ أيضا:
رسالة النبي إلى كل من لا يراعي حقوق الجيرةمن طلب وجد
ولا تحسب أن هذا خاص بالأنبياء والأولياء لأن جوهر ابن آدم في أصل الخلقة موضوع لهذا كالحديد لأن يعمل منه مرآة ينظر فيها صورة العالم، إلا الذي صدأ فيحتاج إلى إجلاء.
وكذلك كل قلب إذا غلب عليه الشهوات والمعاصي لم يبلغ هذه الدرجة وإن لم تغلب عليه تلك الدرجة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) ، وقال الله تعالى: (وَأَشهَدَهُم عَلى أَنفُسِهِم أَلَستُ بِرَبِّكُم قالوا بَلى) .
وكذلك بنو آدم في فطرتهم التصديق بالربوبية كما قال سبحانه وتعالى: (فِطرَتَ اللَهِ الَّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيها) ، والأنبياء والأولياء هم بنو آدم، قال سبحانه وتعالى: (قُل إِنَّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُم) .