يغتر الكثير من الناس اليوم، بالدنيا للحد الذي تشغلهم عن الأخرة، فلا يحصل الفرد من أعماله إلا ما يفض شهوة بطنه وفرجه، دون النظر إلى ما ينتظره في الأخرة، ويصل الحد الشغف بالدنيا إلى السعي للاستزادة من كل ملذاتها، على حساب الحقوق الواجبات التي فرضها الله علينا من الصلاة والصيام والزكاة، الأمر الذي قد أصاب الناس بالبخل والشح، لحرص كل واحد منهم على العيش منفردا، دون النظر لحاجات الغير.
ومن صور الاغترار بالدنيا الإحساس بالقوة والسعي إلى السلطة والمال، والتنازع بين الناس على الشهرة والمال، حتى انتشرت صور الفساد على حساب ما ضيع الناس من الفروض، فتاهت الشرائع، وضاع الفقراء، بعدما أترف غيرهم في ملذات الدنيا وشهواتها فأترف فيها ونسي الآخرة وصار يكره ذكرها ويستثقل الحديث عنها، حتى اغتروا بما في أيديهم ظنا منهم انهم مخلدون بما اكتسبت أيديهم من هذا المال والسلطة، قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
وقال تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [فاطر:5].
الدنيا نفق الوهم:
وإذا تأمل الإنسان هذه الدنيا وأعطاها حقيقتها التي تستحقها، وعلم ما ينتظره من الجزاء، وما يؤول إليه مصيره، لعلم أنه لم يخلق عبثاً ولن يترك سدى، فالجزاء من جنس العمل، وأن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، ولعلم أيضا أن هذه الدنيا حكمم الله عليها بسرعة زوالها، فعش ما شئت فإنك ميت، قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ) [الرحمن:26-27] ، فكل حي فيها يموت، وكل قوي يضعف، وكل جديد يبلى وكل عامر يخرب.
وقد نبه القرآن الكريم على خطورة الاغترار بالدنيا وبيان سرعة زوالها وضرب الأمثال بالحديث عن مصير من قصر همه عليها ورضي بها وأرادها وحدها وأعرض عن الآخرة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس:7-8] .
وقال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16] .
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا قائلا: "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع".
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "الدنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر" رواه مسلم.
ووزن الله سبحانه وتعالى الدنيا فلا تزن وزن جناح بعوضة "لو كانت الدنيا تعدِلُ عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء" .
اقرأ أيضا:
كيف يكشف الشح عوراتك أمام الأخرين؟ حب المال:
لعل المال من أكثر ما يجعل الإنسان يلهث وراء الدنيا، فالمال هو أساس كل بلية، لأن المال هو الوسيلة التي يستطيع الإنسان أن يبني به قصره ويفض به شهواته، ويشعر معه بالقوة، حتى إذا زاد في يديه ونسي حقه وقع في شركه، وعمل على الاستزادة منه، ظنا منه، أنه مخلد به، فحب المال والتعلق به من أكثر المفاتن التي تؤدي بصاحبها إلى دنو الهمة، والتعلق بسفاسف الأمور، علماً بأن حب المال متأصلٌ في النفس الإنسانية، فالإنسان مقصور على ذلك، وإن كان الناس يتفاوتون في هذا الأمر، يقول تعالى: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20].
فالمال يدفع إلى الفساد إذا لم يعمل الإنسان بحقه الذي فرضه الله عليه، والحريص على ماله لا ينفق في سبيل الله ولا يتصدق حتى إنه لا يكاد يخرج زكاة ماله، وقد يحتال على شرع الله ولا يخرجها، ومن أحب المال أصبح المال شغله الشاغل، وأصبح لا يفكر إلا كيف يجمع المال؟ ومن أي طريق يحصل عليه؟ فيستخدم كل الطرق للوصول إلى المال سواء، أكانت طرق الحصول على المال حلالاً أم حرامًا؟ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].
والمال هو وسيلة وغاية يحقق بها الإنسان الضعيف أمام شهواته كل ما يفتتن به، من النساء والمتع الزائلة، وفتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف، فإن وجد المال حصل منه الطغيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلا خسراً، وإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، ورغم ذلك فإنه ليس مذموماً ومرفوضاً البتة، بل إن الله قد جعل المال مدداً في مواضع في كتابه، لقوله تعالى: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 12].
فالأصل أن الإنسان يجعل هذا المال وسيلة للوصول إلى الكمال في الدنيا والآخرة، فيجعل المال سبباً من أسباب علو همته ورقيه للمعالي، فالانهماك في هذا الأمر وهو حب المال الحب الذي يقود إلى دنو الهمة فإنه ينقل الإنسان المسلم عن طاعة ربه، ويجعله يؤثر العاجلة على الآجلة، ويورثه الخور والكسل، ويجره إلى الاسترسال في الدعة واطراح الجد.
حقيقة المال:
كشف الله لنا حقيقة المال، حتى لا نغتر به، ونحيد به عن الفروض، وكشف أنه من المفاتن التي تقود الإنسان إلى دنو الهمة وسفاسف الأمور، وجاء المثل القرآن من خلال قصة أصحاب الجنتين، قال تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 32، 33].
وتدور حول رجلين جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب محفوفتين بالنخل، المحدق جنباتهما الزرع، وكل من الأشجار والزرع مثمر في غاية الجودة، والأنهار متفرقة منها هاهنا وهاهنا، ودخل جنته مغروراً ومعجباً بها، فقال: ما أظن أن تهلك هذه الجنة، وما أظن الساعة أي: يوم القيامة كائنة، ولئن كان هناك حياة بعد الموت ورجوع إلى الله، ليكونن لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، فقال له صاحبه ـ وكان رجلاً مؤمناً ـ وهو منكر عليه إنكاره يوم البعث ـ: لقد كفرت بالذي خلقك، وأنا الآن الفقير، ولكن أرجو الله أن يعطيني في الآخرة خيراً من جنتك، ويرسل على جنتك ما يهلك شجرها وثمرها، أو يجعل ماء أنهارها غائراً في الأرض، وقد وقع الهلاك بثمرة صاحبه، وأحس بأن الذي وقع بجنته إنما هو نتيجة كفره وغروره، فقال: ﴿ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا ﴾ [الكهف: 35].
فقد جاءت قصة الرجلين والجنتين لتضرب مثلا للقيم الزائلة والقيم الباقية، وترسم نموذجين واضحين للنفس المعتزة بزينة الحياة، والنفس المعتزة باللّه. وكلاهما نموذج إنساني لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري، تذهله الثروة، وتبطره النعمة، فينسى القوة الكبر التي تسيطر على أقدار الناس والحياة، ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفنى، فلن تخذله القوة ولا الجاه. وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه، الذاكر لربه، يرى النعمة دليلا على المنعم، موجبة لحمده وذكره، لا لجحوده وكفره.
كما ضرب الله المثل بقارون الذي حرص على جمع المال وقاده إلى دنو الهمة وجعله لا يهتم إلا بمحقرات هذه الدنيا، ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 76 - 83].
وقد عرضت الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيحها وخزائنها لا ينقصه عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها، وكره أن يحب ما أبغضه خالقه، أو يرفع ما وضعه مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً.
انظر للنبي صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر، وكان يقول حينما يجد رجلا يهاب جلاله صلى الله عليه وسلم: " أنا بن امراة كانت تأكل القديد في مكة".