لم يذم النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا مثلما ذم سوء الخلق، ولم يمدح شيئًا مثلمًا مدح حسن الخلق، فانظر كيف لخص النبي سر بعثته بكلمتين عن حسن الخلق حينما قال: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
وانظر على الجانب الآخر، حينما ذم سوء الخلق بقوله فيما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهماُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْخُلُقُ الْحَسَنُ يُذِيبُ الْخَطَايَا كَمَا يُذِيبُ الْمَاءُ الْجَلِيدَ، وَالْخُلُقُ السُّوءُ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ» .
فر منهم كما يفرون من المجزوم
فسوء الخلق يطمس كل حسن، وهو من محبطات الأعمال، فرب رجل يزكي ويصوم ويصلي، ولكنه مضرب المثل في النفاق ليس ذلك إلا لسوء خلقه، فانظر إلى بعض الرجال في الحي الذي تسكن فيه وهم يسبون ويشتمون ليل نهار، فهؤلاء كفيلون أن يوصموا الحي كله بسوء خلقهم، بل أن هناك من يفر من جوارهم وسكنة الحي الذي يعيشون فيه نتيجة غلظة أخلاقهم وتسلط ألسنتهم.
بل ىأن الحكمة تقول : "اختار الجار قبل الدار"، فأنت إذا رأيت جارا سيئا سليط اللسان، فقد ينغص عليك جوارك، وجنتكن مهما بلغ دارك من الرفاهية، لذلك قد استحدث الناس بعض السكن في الأماكن الشاسعة مثل المدن الجديدة، فرارا من بعض السلوكيات التي تنتشر في الأماكن والأحياء الشعبية الضيقة، وذلك إنما لوجود بعض العناصر التي تشوه صورة أهلنا وإخواننا في هذه الأاحياء الفقيرة، حتى وصمت هذه الأحياء بالعشوائية، وهي ليست عشوائية المباني والمنازل بقدر ما هي عشوائية الأخلاق والتربية.
لذلك يفر الناس من كل قبيح، ويوصم القبيح بالعشوائية، ومن المؤسف أن يدفع ثمن هؤلاء المتسلطين بألسنتهم، الكثير من الناس الأتقياء الذين لا ذنب لهم إلا أن جاوروا هذا السليط نتيجة فقرهم في اتخاذ سكن بديل عن جارهم السوء.
فسوء الخلق من أهم الأسباب التي تنفر الناس، بالرغم من أن البعض يبرر لنفسه التجهم في وجوه الناس، ويسوغ لها الغلظة عليهم، ويبحث لنفسه عن الاعذار لفظاظته، فأي نجاح يرجوه، وأي إصلاح يبتغيه وهو محكوم عليه بالفشل بسبب هذه الفظاظة وتلك الغلظة، وذلك الجفاء!.
لذلك قال الله تعالى لنبيه: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 158].
فتَأَملْ قَولَ اللَّهِ تَعَالَى لرسولهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، ينفضُّ الناس عنه وهم يعلمون أنه رسول الله، وأن نجاتهم في متابعته، وأن فلاحهم في التأسي به، وأن سعادتهم في قربه، ومع ذلك يتناسى الناس كل ذلك أمامَ الغلظةِ والفظاظةِ.
وقَالَ أَبُو العَتاهِيَةِ:
تَرجو النَّجاةَ ولَمْ تسلُكْ مَسالِكَها *** إن السَّفينةَ لا تَجْري على اليَبَسِ
وحُسنُ الخُلُقِ يسترُ كلَ عيبٍ، كما أنَّ سوءَ الخُلُقِ يطمسُ كلَ حَسَنٍ.
ومن أجمل ما قيل من شعر عن الأخلاق
قال أمير الشعراء أحمد شوقي في بيته المشهور :
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت * فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقال أيضا:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتما وعويلا
وقال أيضا :
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه * فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
وقال المتنبي :
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له * إذا لم يكن في فعله والخلائق
ومن الشعراء الذين اتسموا بسوء الخلق، الحطيئة، ولقد اشتهر الحطيئة من بين شعراء عصره بالهجاء والشتم وكأن هذه الطبيعة المنحرفة فيه لم يغير الإسلام منها شيئا بل بقي على حاله وقد سبب له لسانه السليط متاعب كثيرة.
وعرف الحطيئة بانه كثير الهجاء حتى أنه هجا أبيه وزوجته وأمه، وحينما عجز عن أن يجد أحدا يهجوه، شتم نفسه وقال:
أَبَتْ شَفَتَايَ الْيَوْمَ إلا تَكَلُّمًا * * * بِسُوءٍ فَمَا أَدْرِي لِمَنْ أَنَا قَائِلُهُ ؟
أَرَى لِي وَجْهًا قَبَّحَ اللَّهُ خَلْقَهُ * * * فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وَقُبِّحَ حَامِلُهُ
من أسباب سوء الخلق:
(1) المناصب حينما تأتي لجشع فقد تحدث في الأخلاق تغيرًا، وتجعله ينفر من أصدقائه القدامى.
(2) العزل فقد يسوء منه الخلق، ويضيق به الصدر، إما لشدة أسفٍ أو لقلة صبر.
(3) كثرة المال، فقد تتغير به أخلاق اللئيم بطرًا، ويطغى لمجرد شعوره بالغنى ، وقد قيل: من نال استطال.
(4) الفقر فقد يتغير به الخلق، إما هربا من أن يوصف بالمسكنة أو أسفًا على ما فات من الغنى.
(5) الهموم التي تُذهلُ اللُّب، وتشغل القلب، فلا تقوى على صبر، وقد قيل: الهم كالسم. وقال بعض الأدباء: الحزنُ كالداء المخزون في فؤاد المحزون.